بِطَرِيقِ الصِّلَةِ فَجَائِزٌ كَمَا سَبَقَ جِنْسُهُ، وَأَمَّا إذَا كَانَ إعْطَاءُ الْمَاءِ مُتَعَارَفًا بِالْقِرَاءَةِ لَهُ أَوْ فِي قَبْرِهِ مَثَلًا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ عُرْفًا كَالْمُشْتَرَطِ شَرْطًا نَعَمْ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْمَعْرُوفِيَّةُ فِي جَانِبِ الصِّلَةِ فَتَأَمَّلْ وَأَمَّا مَا فِي بَعْضِ شُرُوحِ الْكِتَابِ هُنَا مِنْ أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى قَارِئٍ مُعَيَّنٍ لِقَصْدِ إينَاسِ الْمَيِّتِ بِالْقُرْآنِ أَوْ إسْمَاعِ الْأَحْيَاءِ أَوْ لِإِعَانَةُ مَنْ يَحْصُرُ وَقْتَهُ بِالْقِرَاءَةِ وَلَا يَتَفَرَّغُ وَقْتًا لِلِاكْتِسَابِ صَحِيحٌ فَتَكُونُ غَلَّةُ الْوَقْفِ صِلَةً لَا أُجْرَةً فَإِنْ جَعَلَ مَدَارَ الْجَوَازِ عَدَمَ الْعَقْدِ وَعَدَمَ قَصْدِ أَخْذِ الْمَالِ فَيَكُونُ رَاجِعًا إلَى مَا ذُكِرَ آنِفًا لَكِنْ يَخْفَى حِينَئِذٍ كَوْنُ أَكْثَرِهِمْ قُيُودَاتِهِ حَشْوًا مُوهِمًا بَلْ مُشْعِرًا بِخِلَافِ مَقْصُودِهِ، وَإِنْ جَعَلَ مَدَارَهُ كَوْنَ الْقَارِئِ مُعَيَّنًا أَوْ نَحْوَ الْإِينَاسِ فَفَسَادُهُ ظَاهِرٌ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الْمُحِيطِ قَالَ بَعْضٌ: إذَا كَانَ الْقَارِئُ مُعَيَّنًا يَنْبَغِي أَنْ تَجُوزَ وَصِيَّتُهُ لَهُ عَلَى وَجْهِ الصِّلَةِ وَقَالَ أَبُو نَصْرٍ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ الْقَارِئُ مُعَيَّنًا، وَفِي الْوَسِيلَةِ قَالَ فِي الْبَزَّازِيَّةِ: وَيُكْرَهُ اتِّخَاذُ الطَّعَامِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ وَبَعْدَ الْأُسْبُوعِ.
وَقَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَلَا يُبَاحُ اتِّخَاذُ الضِّيَافَةِ عِنْدَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ الضِّيَافَةَ تُتَّخَذُ عِنْدَ السُّرُورِ قَالَ الزَّيْلَعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَلَا بَأْسَ بِالْجُلُوسِ لِلْمُصِيبَةِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ غَيْرِ ارْتِكَابِ مَحْظُورٍ مِنْ فَرْشِ الْبُسُطِ وَالْأَطْعِمَةِ مِنْ أَهْلِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهَا تُتَّخَذُ عِنْدَ السُّرُورِ، وَلَا يُوصِي بِدَفْعِ شَيْءٍ لِمَنْ يَقْرَأُ عِنْدَ قَبْرِهِ الْقُرْآنَ فَإِنَّهَا بَاطِلَةٌ قَالَ فِي الْمُحِيطَيْنِ وَالْخُلَاصَةِ وَالِاخْتِيَارِ رَجُلٌ أَوْصَى لِقَارِئِ قُرْآنٍ عِنْدَ قَبْرِهِ بِشَيْءٍ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ
وَنَقَلَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ بِالْأُجْرَةِ لَا يَسْتَحِقُّ بِهَا الثَّوَابَ لَا لِلْمَيِّتِ وَلَا لِلْقَارِئِ وَقَالَ الْحَافِظُ الْعَيْنِيُّ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ نَاقِلًا عَنْ الْوَاقِعَاتِ وَيُمْنَعُ الْقَارِئُ لِلدُّنْيَا وَالْآخِذُ وَالْمُعْطِي آثِمَانِ، وَلَا يُوصِي بِتَجْصِيصِ الْقَبْرِ وَلَا تَطْيِينِهِ وَبِنَاءِ الْقُبَّةِ عَلَيْهِ فَإِنَّهَا بَاطِلَةٌ صَرَّحَ بِهَا فِي الِاخْتِيَارِ وَغَيْرِهِ وَعَلَّلُوا بِقَوْلِهِمْ لِأَنَّ عِمَارَةَ الْقُبُورِ لِلْإِحْكَامِ مَكْرُوهَةٌ وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ» قَالَ التوربشتي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ: وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: الْبِنَاءُ عَلَى الْقَبْرِ بِالْحِجَارَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا، وَالْأُخْرَى أَنْ يَضْرِبَ عَلَيْهِ خِبَاءً أَوْ نَحْوَهُ وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ انْتَهَى، وَفِي التتارخانية عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «صَفْقُ الرِّيَاحِ وَقَطْرُ الْأَمْطَارِ عَلَى قَبْرِ الْمُؤْمِنِ كَفَّارَةٌ لِذُنُوبِهِ» انْتَهَى وَلَمَّا اقْتَضَى تَحْقِيقُ ذَلِكَ زِيَادَةَ بَسْطٍ وَتَفْصِيلٍ لِكَثْرَةِ الْأَقْوَالِ وَلَمْ يَتَحَمَّلْ الْمَقَامُ ذَلِكَ التَّفْصِيلَ أَحَالَ مَحَلَّ ذَلِكَ التَّحْقِيقِ إلَى رَسَائِلَ فَقَالَ (وَقَدْ بَيَّنَّا) أَدِلَّةَ (ذَلِكَ) وَتَحْقِيقَهُ عَلَى صَرِيحِ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا وَاقْتِضَاءِ قَوَاعِدِهِمْ (فِي بَعْضِ رَسَائِلِنَا) إذْ لِلْمُصَنِّفِ رَسَائِلُ سِوَاهَا كَمَعْدِلِ الصَّلَاةِ (السَّيْفِ الصَّارِمِ وَإِنْقَاذِ الْهَالِكِينَ وَإِيقَاظِ النَّائِمِينَ وَجَلَاءُ الْقُلُوبِ فَعَلَيْك) أَيُّهَا السَّاعِي لِتَحْقِيقِ هَذَا الْمَطْلَبِ الْخَفِيِّ الْمُهِمِّ (بِهَا وَطَالِعْهَا) لِتَخْرُجَ مِنْ ظُلُمَاتِ الْأَوْهَامِ وَتَخْلُصَ عَنْ كَدُورَاتِ حَضِيضِ التَّقْلِيدِ، وَتَدْخُلَ فِي أَنْوَارِ الْأَعْيَانِ، وَتَصِلَ إلَى ذُرْوَةِ التَّحْقِيقِ (حَتَّى تَعْلَمَ حَقِيقَةَ مَقَالِنَا) ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا فِيهَا هُوَ النُّقُولُ الصَّحِيحَةُ وَالْمَذَاهِبُ الْمُسْتَقِيمَةُ وَالْحُجَجُ الْيَقِينِيَّةُ
ثُمَّ لَمَّا كَانَ هَذَا التَّصْنِيفُ مِنْ عَظَائِمِ النِّعَمِ الْجَلِيلَةِ لِعِظَمِهِ وَعَدَمِ نَظِيرِهِ وَمِثْلُهُ مَظِنَّةُ الْعُجْبِ وَنَحْوِهِ قَالَ شُكْرًا لَهُ تَعَالَى وَنَفْيًا لِدَوَاعِي نَحْوِ الْعَجَبِ تَبَرُّكًا وَاقْتِبَاسًا بِالْكَلَامِ الْقَدِيمِ (وَ) نَحْنُ (نَقُولُ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الأعراف: 43] وَهُوَ الظَّاهِرُ {الَّذِي} [الأعراف: 43] اقْتَضَاهُ الْمَقَامُ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: نَقُولُ أَنْتَ وَلِمَنْ خَصَّ هَذَا الْحَمْدَ بِالْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ الَّتِي أُحِيلَ تَحْقِيقُهَا إلَى تِلْكَ الرَّسَائِلِ كَمَا يَشْهَدُهُ الذَّوْقُ وَكَمَا نَبَّهَ آنِفًا وَفِيهِ تَنْبِيهٌ أَنَّ الْحَمْدَ كَمَا يَلْزَمُ فِي الْبِدَايَةِ يَلْزَمُ فِي النِّهَايَةِ كَمَا تَحَقَّقَ فِي مَحَلِّهِ، وَفِيهِ أَيْضًا حُسْنُ تَنَاسُبِ النِّهَايَةِ إلَى الْبِدَايَةِ {هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف: 43] أَوْصَلْنَا إلَى هَذَا التَّصْنِيفِ فَتَأَمَّلْ {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43] فَإِنَّ كُلَّ خَيْرٍ صَدَرَ مِنْ الْعَبْدِ لَيْسَ إلَّا بِتَوْفِيقِهِ - تَعَالَى.
قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَاللَّامُ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَجَوَابُ لَوْلَا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ لَعَلَّ هَذِهِ الْهِدَايَةَ إنَّمَا هِيَ بِتَوْسِيطِ إرَادَةِ الْعِبَادِ عَلَى نَهْجِ حِكْمَتِهِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى