العفوي في تلك العودة فان وجهها الإرادي يتمثل في محاولته الإمعان في البعد عن اليساريين ويعد إقداما على التظرف إلى النقيض، لكي يثبت لنفسه أنه قد بلغ إلى حيث لا يرجو عودة اليهم، وألى حيث لا يستطيعون أن يمدوا إليه حبالهم أو عصيهم؛ ومن جراء هذا التحول نفسه أخذ الشك يساوره حول جدوى الالتزام، فحاول أولا أن يوسع من مفهوم هذا المصطلح، ثم أن يعلن عن ضجره من الموقف الالتزامي جملة، ثم أن يتخلى عنه تحت وطأة المرض وحدة الإحساس بالمشكلة الفردية التي تمثلت في مرضه وما جره من نتائج؛ ومن الإنصاف للسياب أن نلمح في سريرته نقاء لم تستطع أن تطمسه أنواع العذاب الجسدي الذي كان يعتصره، إذ نجده ما يزال معذب النفس والضمير أيضاً بين التخلي عن التزامه القديم وبين ضرورات المشكلة الفردية التي كانت تستحوذ على كل كوة يتسرب منها النور إلى عالمه، وحسبنا أن نجده يقول وهو مقيد بالعجز والمرض والحرمان: " مالي وما للعالم كيفما سار فليسر، رغم أن صوتا تحت ذلك الصوت يهمس: كلا، أنه عالمي ويهمني الاتجاه الذي يسير فيه " (?) ، فذلك الصوت الهامس الذي لم يلبث إلا قليلا حتى خفت؛ للضغط الشديد الذي يعانيه شاعر يتوقع الموت، هو الصوت الذي يعبر عن تألم الشاعر لتخليه عن المسئولية الجماعية؛ وقد يقول بعض الناس أن قصيدته التي حيا فيها الخلاص من قاسم إنما كانت تكفيرا عن موقف من النفاق الذي اضطرته إليه ظروف الحياة (أو على التحقيق ظروف الموت البطيء) ، وقد يرى فيها آخرون امتداد للنقمة على اليساريين الذين أيدوا قاسما وأيدهم بنفوذه وسلطانه، وهي كذلك دون ريب، ولكنها تدل على أن الشاعر صحا فيه إحساسه القديم بالرابطة بينه وبين قضية أمته، مهما يختلف