حين كثر المصلوبون من أبنائها. وإذا تجاوزنا هذه الفكرة وهي أن الموت طريق البعث، والبعث متدفق بالعطاء حتى يحطم الحد الفاصل بين الإنسانية والالوهية، بحيث يصبح الموت صفيرا كبيرا في آن معا؟ أقول إذا تجاوزنا هذه الفكرة لم نجد في القصيدة شيئا آخر وراءها، هذا مع الاضطراب وضعف التدرج العام فيها، وعدم وجود مسوغ للانتقال فيها من وزن إلى وزن. ويصح لنا أن نميز هنا نوعا ثالثا من الموت إلى جانب الموت في حضن الطفولة (بويب) والموت في صف المناضلين؛ فهذا الموت الثالث هو " موت تموز " أو " صلب المسيح " أي مقدمة البعث والعودة بالخصب إلى الأرض. إذا كان السياب قد سمى النوع الثاني " انتصارا " فان الثالث يستحق أن يسمى استمرارا أو خلودا لأنه طريق إلى الولادة الجديدة، وهكذا تم انتحال السياب لكل من تموز والمسيح على السواء، وتطابق مع رمزيه الكبيرين، وأصبح ورودهما في شعره متلازمين أو متعاقبين أمراً مألوفا.

وبعد هذه القصائد الخمس جفت قدرة الرمز على الاستجابة له، فقد ألح في قصيدة " مدينة بلا مطر " على أسطورة تموز وما يتصل بها من شعائر حتى كاد أن يستنزفها، وألح في قصيدة " المسيح بعد الصلب " على ما يتصل بكثير من تفرعات القصة، وكان منذ القصائد الكهفيات قد أسرف في تصور الحركة المتدرجة بين الموت أو النوم في الكهف (أو القبر) وبين اليقظة النهائية، وكان كذلك قد انفق جهدا كبيرا في المدى المتطاول ليطله ببناء فني محكم، متدرجا في ذلك من الفيض الإيحائي الذي تبعثه لفظة إلى البناء المعقد الذي يتطلب حيلا فنية في كل دقائقه وهذا هو التعليل الفني لصمته، إلى جانب أسباب نفسيه ومعيشية سبقت الإشارة إليها. ولهذا فانه حين عاد إلى ميدان الشعر لم يستطع أن يقول إلا قصيدة واحدة هي " إلى جميلة بوحيرد " وقد عاد فيها يلفق بين مختلف الوسائل التي استغلها في مرحلة الآداب والمرحلة التالية لها، فعاد

طور بواسطة نورين ميديا © 2015