طغيان السياسة البريطانية ولا أخلاقياتها ما لم يعرفوه بالتجربة في التسلط الفاشي أو النازي، وما كان حديث ثورة الفلاحين في فلسطين (1936 - 1939) ببعيد عن الأذهان يومئذ.
ثم ان الأمر أدق من هذا بالنسبة للعراق أولاً ولبدر شاكر السياب ثانيا: أما العراق فقد حاول في حركة رشيد عالي الكيلاني تحدي بريطانيا وموالاة المحور، ورغم أن تلك الحركة كانت قصيرة الأجل فإنها كانت تجد التأييد الكامل لها في نفوس الفتيان الناقمين على السياسة البريطانية في البلاد العربية؛ ولهذا عدت ثورة الكيلاني انتفاضة قومية، ذات غاية تحررية، وأما السياب فقد فتح عينيه على دنيا الشعر في أعقاب فترة سئم الناس فيها في العراق مواعظ الرصافي باسم الشعر الاجتماعي ومنظومات الزهاوي باسم الأفكار العلمية؛ وكانت الرومنطقية هي اللون الجديد المستطرف حينئذ؛ وهي الغذاء الذي يناسب فتى مثله في تلك السن الموشعة لالاحلام والآمال: عن طريقها تستطيع حساسيته المسرفة ان تتشكل، ومن خلالها يستطيع أن يعكف على العناية بنفسه إذا أهمله الناس.
وكان العام المدرسي (1942 - 1943) وهو آخر مرحلة في ثانوية البصرة من أحفل الأعلام بالشعر، ولهذه الظاهرة أسباب عديدة، منها شعور بدر بأن الشعر لم يعد يتليا بالنغمات والقوافي، وإنما اصبح قدره الذي لا محيد عنه، فهو في السادسة عشرة من عمره يحس انه لا يجد أمن نفسه ولا طمأنينة روحه إلا في حمى الشعر؛ والمدرسة تشجع على الشعر وتعقد بذلك المباريات، وتقرر الجوائز، وحوله من رفاق الدراسة عدد من الشعراء يتنافسون تنافسا وديا في عرض نتاج قرائحهم، ومن هؤلاء صديقاه محمد علي إسماعيل (أو السماعيل كما يكتبه السياب في رسائله) وخالد الشواف، وقد اضطر خالد أن يغادر البصرة إلى بغداد دون أن يكمل فيها السنة النهائية وبعض التي قبلها لأن والده