وسادسها -وهو من النكت السرِيَّة البديعة جدًّا-: أنه دال على قرب صاحبه من الله، وأنه لاقترابه منه وشدة حضوره يسأل مسألةَ: أقربَ شيءٍ إليه، فيسأله مسألةَ مناجاة القريب للقريب، لا مسألة نداء البعيد للبعيد.
ولهذا أثنى الله سبحانه على عبده زكريا بقوله: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)}، فكلما استحضرَ القلبُ قربَ الله تعالى منه، وأنه أقربُ إليه من كلِّ قريبٍ، وتصوَّر ذلك = أخفى دعاءَه ما أمكنه، ولم يَتَأَتَّ له رفعُ الصوتِ به، بل يراه غيرَ مستحسن، كما أن من خاطبَ جليسًا له يسمع خَفِيَّ كلامه، فبالغ في رفع الصوتِ استهجن ذلك منه -ولله المثل الأعلى سبحانه (?) - وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا المعنى بعينه بقوله في الحديث الصحيح، لما رفِع الصحابةُ أصواتَهم بالتكبير وهم معه في السفر، فقال: "ارْبعوا عَلى أنْفُسِكُمْ، إنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائبًا، إنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا، أَقْرَبَ إلىَ أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُق راحِلتِهِ" (?)، وقد قال: تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}.
وقد جاء أن سببَ نزولها أن الصحابة قالوا: يا رسول الله رَبُّنا قريبٌ فَنُنَاجِيَهُ، أم بعيدٌ فنُنَادِيَهُ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (?) [البقرة: 186].