الْمُتَقَدِّمِ عَلَى شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ مَعْلُومُ الذَّاتِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا وُجِدَ شَعْبَانُ عُلِمَ أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالتَّقَدُّمِ عَلَى رَمَضَانَ، وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ وَبِخِلَافِ الْقُدُومِ وَالدُّخُولِ، فَإِنَّ بَعْدَ مُضِيِّ شَهْرٍ مِنْ وَقْتِ الْكَلَامِ بَقِيَ ذَاتُ الشَّهْرِ الَّذِي أُضِيفَ إلَيْهِ الْعِتْقُ مَوْهُومَ الْوُجُودِ، فَلَمْ يَكُنِ الْقُدُومُ مُعَرِّفًا لِلشَّهْرِ بَلْ كَانَ مُحَصِّلًا لِلشَّهْرِ الْمَوْصُوفِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ بِحَيْثُ لَوْلَا وُجُودُهُ لَمَا وُجِدَ هَذَا الشَّهْرُ أَلْبَتَّةَ، فَكَانَ الْمَوْتُ مُظْهِرًا مُعَيِّنًا لِلشَّهْرِ فَيَظْهَرُ مِنْ الْأَصْلِ مِنْ حِينِ وُجُودِهِ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِي كَيْفِيَّةِ الظُّهُورِ: عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ ظُهُورٌ مَحْضٌ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْعِتْقَ كَانَ وَاقِعًا مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ حَالَةِ الْمَوْتِ، وَهُوَ أَنْ يُعْتَبَرَ الْوُقُوعُ، أَوْ لَا ثُمَّ يَسْرِي إلَى أَوَّلِ الشَّهْرِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ التَّصَرُّفِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَثْبَتَهُ الْمُتَصَرِّفُ وَالْمُتَصَرِّفُ أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى أَوَّلَ الشَّهْرِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْمَوْتِ، فَيَقَعُ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ لَا فِي آخِرِهِ، فَكَانَ وَقْتُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ أَوَّلَ الشَّهْرِ، فَيَظْهَرُ أَنَّ الْعِتْقَ وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، كَمَا إذَا قَالَ: إنْ كَانَ فُلَانٌ فِي الدَّارِ فَعَبْدُهُ حُرٌّ، فَمَضَتْ مُدَّةٌ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ فِي الدَّارِ يَوْمَ التَّكَلُّمِ يَقَعُ الْعِتْقُ مِنْ وَقْتِ التَّكَلُّمِ لَا مِنْ وَقْتِ الظُّهُورِ، وَهَؤُلَاءِ قَالُوا: لَوْ كَانَ مَكَانُ الْعَتَاقِ طَلَاقَ ثَلَاثٍ فَالْعِدَّةُ تُعْتَبَرُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، حَتَّى لَوْ حَاضَتْ فِي الشَّهْرِ حَيْضَتَيْنِ، ثُمَّ مَاتَ فُلَانٌ كَانَتْ الْحَيْضَتَانِ مَحْسُوبَتَيْنِ مِنْ الْعِدَّةِ، وَلَوْ كَانَ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِ فُلَانٍ بِشَهْرَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةٍ أَشْهُرٍ، ثُمَّ مَاتَ فُلَانٌ لِتَمَامِ الْمُدَّةِ، أَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ رَأَتْ ثَلَاثَةَ حِيَضٍ فِي الْمُدَّةِ، تَبَيَّنَ عِنْدَ مَوْتِهِ أَنَّ الطَّلَاقَ كَانَ وَاقِعًا، وَأَنَّ الْعِدَّةَ قَدْ انْقَضَتْ.
كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ كَانَ زَيْدٌ فِي الدَّارِ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَمَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةَ حِيَضٍ أَنَّهُ كَانَ فِي الدَّارِ يَوْمَ التَّكَلُّمِ بِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهَا قَدْ طَلُقَتْ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَأَنَّهَا مُنْقَضِيَةُ الْعِدَّةِ كَذَا هَذَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إنْ كَانَ حَمْلُ فُلَانَةَ غُلَامًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَوَلَدَتْ غُلَامًا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى طَرِيقِ التَّبْيِينِ كَذَا هَذَا، وَاَلَّذِي يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَا: إنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ: آخِرُ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً، ثُمَّ أُخْرَى، ثُمَّ مَاتَتْ طَلُقَتْ الثَّانِيَةُ عَلَى وَجْهِ التَّبْيِينِ الْمَحْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ كَانَ لَا يُحْكَمُ بِطَلَاقِهَا مَا لَمْ يَمُتْ كَذَا هَهُنَا، وَقَالُوا لَوْ خَالَعَهَا فِي وَسَطِ الشَّهْرِ، ثُمَّ مَاتَ فُلَانٌ لِتَمَامِ الشَّهْرِ فَالْخُلْعُ بَاطِلٌ وَيُؤْمَرُ الزَّوْجُ بِرَدِّ بَدَلِ الْخُلْعِ سَوَاءٌ كَانَتْ عِنْدَ الْمَوْتِ مُعْتَدَّةٌ، أَوْ مُنْقَضِيَةُ الْعِدَّةِ، أَوْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا بِأَنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، وَهَؤُلَاءِ طَعَنُوا فِيمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْكِتَابِ لِتَخْرِيجِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ مَاتَ فُلَانٌ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ يُحْكَمُ بِبُطْلَانِ الْخُلْعِ وَيُؤْمَرُ الزَّوْجُ بِرَدٍّ بَدَلِ الْخُلْعِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُعْتَدَّةٍ وَقْتَ مَوْتِ فُلَانٍ بِأَنْ كَانَ بَعْدَ الْخُلْعِ قَبْلَ مَوْتِ فُلَانٍ أَسْقَطَتْ سِقْطًا أَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا لَا يَبْطُلُ الْخُلْعُ وَلَا يُؤْمَرُ الزَّوْجُ بِرَدِّ بَدَلِ الْخُلْعِ، وَقَالُوا: هَذَا التَّخْرِيجُ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ هَذَا ظُهُورٌ مَحْضٌ فَتَبَيَّنَ عِنْدَ وُجُودِ الْجُزْءِ الْأَخِيرِ أَنَّ هَذَا الشَّهْرَ مِنْ ابْتِدَاءِ وُجُودِهِ مَوْصُوفٌ بِالتَّقَدُّمِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثَ كَانَتْ وَاقِعَةً مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ سَوَاءٌ كَانَتْ مُعْتَدَّةً، أَوْ غَيْرَ مُعْتَدَّةٍ، كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ كَانَ فُلَانٌ فِي الدَّارِ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ، ثُمَّ خَالَعَهَا، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ الْحَلِفِ فِي الدَّارِ أَنَّهُ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْخُلْعَ كَانَ بَاطِلًا عَلَى الْإِطْلَاقِ سَوَاءٌ كَانَتْ مُعْتَدَّةً، أَوْ لَمْ تَكُنْ كَذَا هَهُنَا، وَالْفِقْهُ أَنَّ وَقْتَ الْمَوْتِ إذَا لَمْ يَكُنْ وَقْتَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ قِيَامُ الْمِلْكِ وَالْعِدَّةِ، وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: إنَّ الْعِتْقَ، أَوْ الطَّلَاقَ يَقَعُ وَقْتَ الْمَوْتِ، ثُمَّ يَسْتَنِدُ إلَى أَوَّلِ الشَّهْرِ، إلَّا أَنَّهُ يَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ وَاقِعًا مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ، وَوَجْهُهُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهِ إلَّا بِمُقَدِّمَةٍ وَهِيَ أَنَّ مَا كَانَ الدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِهِ قَائِمًا يُجْعَلُ مَوْجُودًا فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ إقَامَةَ الدَّلِيلِ مَقَامَ الْمَدْلُولِ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْخِطَابَ يَدُورُ مَعَ دَلِيلِ الْقُدْرَةِ وَسَبَبِهَا دُونَ حَقِيقَةِ الْقُدْرَةِ، وَمَعَ دَلِيلِ الْعِلْمِ وَسَبَبِهِ دُونَ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ، حَتَّى لَا يُعْذَرُ الْجَاهِلُ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِقِيَامِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ، وَلَا بِالشَّرَائِعِ عِنْدَ إمْكَانِ الْوُصُولِ إلَى مَعْرِفَتِهَا بِدَلِيلِهَا، ثُمَّ الدَّلِيلُ، وَإِنْ خَفِيَ بِحَيْثُ يَتَعَذَّرُ الْوُصُولُ إلَيْهِ يُكْتَفَى بِهِ إذَا كَانَ مُمْكِنَ الْحُصُولِ فِي الْجُمْلَةِ، إذْ الدَّلَائِلُ تَتَفَاوَتُ فِي نَفْسِهَا فِي الْجَلَاءِ وَالْخَفَاءِ، وَالْمُسْتَدِلُّونَ أَيْضًا يَتَفَاوَتُونَ فِي الْغَبَاوَةِ وَالذَّكَاءِ، فَالشَّرْعُ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ هَذَا التَّفَاوُتِ فَكَانَتْ الْعِبْرَةُ لِأَصْلِ الْإِمْكَانِ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَأَمَّا مَا كَانَ الدَّلِيلُ فِي حَقِّهِ مُنْعَدِمًا فَهُوَ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ: الشَّهْرُ الَّذِي يَمُوتُ فُلَانٌ فِي آخِرِهِ فَإِنْ اتَّصَفَ بِالتَّقَدُّمِ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ لَكِنْ كَانَ دَلِيلُ اتِّصَافِهِ مُنْعَدِمًا أَصْلًا فَلَمْ يَكُنْ لِهَذَا الِاتِّصَافِ عِدَّةٌ، وَيَبْقَى مِلْكُ النِّكَاحِ إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الشَّهْرِ فَيُعْلَمُ