هَذِهِ الْمَقَالَةَ لَا يَحْنَثُ، بِخِلَافِ مَا إذْ قَالَ أَنْتَ حُرٌّ إذَا جَاءَ غَدٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَعْلِيقٌ بِشَرْطٍ لِوُجُودِ كَلِمَةِ التَّعْلِيقِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ تَعْلِيقًا بِشَرْطٍ، وَالشَّرْطُ مَا فِي وُجُودِهِ خَطَرٌ وَمَجِيءُ الْغَدِ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، قِيلَ لَهُ مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: إنَّ الْغَدَ فِي مَجِيئِهِ خَطَرٌ لِاحْتِمَالِ قِيَامِ السَّاعَةِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل: 77] فَيَصْلُحُ مَجِيءُ الْغَدِ شَرْطًا لَكِنْ هَذَا الْجَوَابُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ السَّاعَةَ لَا تَقُومُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ أَشْرَاطِهَا مِنْ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَدَابَّةِ الْأَرْضِ وَخُرُوجِ الدَّجَّالِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَوَرَدَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ، وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ إنَّ مَجِيءَ الْغَدِ، وَإِنْ كَانَ مُتَيَقَّنَ الْوُجُودِ يُمْكِنُ كَوْنُهُ شَرْطًا لِوُقُوعِ الْعِتْقِ، وَلَيْسَ بِمُتَيَقَّنِ الْوُجُودِ بَلْ لَهُ خَطَرُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ لِاحْتِمَالِ مَوْتِ الْعَبْدِ قَبْلَ مَجِيءِ الْغَدِ، أَوْ مَوْتِ الْمَوْلَى، أَوْ مَوْتِهِمَا وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ شَرْطًا لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الْجَزَاءِ، عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ اسْمٌ لِمَا جُعِلَ عِلْمًا لِنُزُولِ الْجَزَاءِ سَوَاءٌ كَانَ مَوْهُومَ الْوُجُودِ، أَوْ مُتَيَقَّنَ الْوُجُودِ.
وَأَمَّا الْإِضَافَةُ إلَى وَقْتٍ مَوْصُوفٍ.
فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ قَبْلَ دُخُولِكَ الدَّارَ بِشَهْرٍ، أَوْ قَبْلَ قُدُومِ فُلَانٍ بِشَهْرٍ، أَوْ قَبْلَ مَوْتِ فُلَانٍ بِشَهْرٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ قَبْلَ وُجُودِ الْوَقْتِ الْمَوْصُوفِ، حَتَّى لَوْ وُجِدَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْحَوَادِثِ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى الْوَقْتِ الْمَوْصُوفِ، فَلَا يَثْبُتُ قَبْلَهُ، وَيُشْتَرَطُ تَمَامُ الشَّهْرِ وَقْتَ التَّكَلُّمِ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ فِي مِلْكِهِ قَبْلَ ذَلِكَ بِشُهُورٍ بَلْ بِسِنِينَ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الْعِتْقِ إلَى وَقْتِ إيجَابِ الْعِتْقِ فِيهِ غَيْرُ إيجَابِ الْعِتْقِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، وَإِيجَابُ الْعِتْقِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي لَا يُتَصَوَّرُ فَلَا يُحْمَلُ كَلَامُ الْعَاقِلِ عَلَيْهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعِتْقَ ثَبَتَ عِنْدَ وُجُودِ هَذِهِ الْحَوَادِثِ لِتَمَامِ الشَّهْرِ، وَاخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ ثُبُوتِهِ، فَقَالَ زُفَرُ: يَثْبُتُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَثْبُتُ مُقْتَصِرًا عَلَى حَالِ وُجُودِ الْحَوَادِثِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فَرَّقَ بَيْنَ الْقُدُومِ وَالدُّخُولِ وَبَيْنَ الْمَوْتِ، فَقَالَ فِي الْقُدُومِ وَالدُّخُولِ كَمَا قَالَا، وَفِي الْمَوْتِ كَمَا قَالَ زُفَرُ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَمْلُوكُ أَمَةً فَوَلَدَتْ فِي وَسَطِ الشَّهْرِ يَعْتِقُ الْوَلَدُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَعْتِقُ.
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُ أَوْقَعَ الْعِتْقَ فِي وَقْتٍ مَوْصُوفٍ بِكَوْنِهِ مُتَقَدِّمًا عَلَى هَذِهِ الْحَوَادِثِ بِشَهْرٍ، فَإِذَا وُجِدَتْ بَعْدَ شَهْرٍ مُتَّصِلَةً بِهِ عُلِمَ أَنَّ الشَّهْرَ مِنْ أَوَّلِهِ كَانَ مَوْصُوفًا بِالتَّقَدُّمِ عَلَيْهَا لَا مَحَالَةَ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْعِتْقَ كَانَ وَاقِعًا فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ كَمَا إذَا قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ قَبْلَ رَمَضَانَ بِشَهْرٍ، وَلَا فَرْقَ سِوَى أَنَّ هُنَاكَ يَحْكُمُ بِالْعِتْقِ مِنْ أَوَّلِ هِلَالِ شَعْبَانَ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَجِيءِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَهَهُنَا لَا يَحْكُمُ بِالْعِتْقِ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ رَمَضَانُ يَتَّصِلُ بِشَعْبَانَ لَا مَحَالَةَ، وَهَهُنَا وُجُودُ هَذِهِ الْحَوَادِثِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَتَّصِلَ بِهَذَا الشَّهْرِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَتَّصِلَ لِجَوَازِ أَنَّهَا لَا تُوجَدُ أَصْلًا.
فَأَمَّا فِي ثُبُوتِ الْعِتْقِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ مِنْ ابْتِدَاءِ الشَّهْرِ، فَلَا يَخْتَلِفَانِ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: ثُبُوتُ الْعِتْقِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ فِي الْمَوْتِ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِهَذِهِ الْحَوَادِثِ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الْعِتْقَ فِي شَهْرٍ مُتَّصِفٍ بِالتَّقَدُّمِ عَلَى هَذِهِ الْحَوَادِثِ، وَلَا يَتَّصِفُ بِالتَّقَدُّمِ عَلَيْهَا إلَّا بِاتِّصَالِهَا بِهِ، وَلَا تَتَّصِلُ بِهِ إلَّا بَعْدَ وُجُودِهَا، فَكَانَ ثُبُوتُ الْعِتْقِ عَلَى هَذَا التَّدْرِيجِ مُتَعَلِّقًا بِوُجُودِ هَذِهِ الْحَوَادِثِ، فَيُقْتَصَرُ عَلَى حَالِ وُجُودِهَا، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هَكَذَا فِي الدُّخُولِ وَالْقُدُومِ كَذَا فِي الْمَوْتِ بِخِلَافِ شَعْبَانَ؛ لِأَنَّ اتِّصَافَ شَعْبَانَ بِكَوْنِهِ مُتَقَدِّمًا عَلَى رَمَضَانَ لَا يَقِفُ عَلَى مَجِيءِ رَمَضَانَ وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِأَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ الدُّخُولِ وَالْقُدُومِ وَبَيْنَ الْمَوْتِ أَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الْقُدُومِ وَالدُّخُولِ بَعْدَ مَا مَضَى شَهْرٌ مِنْ وَقْتِ التَّكَلُّمِ يَبْقَى الشَّهْرُ الَّذِي أُضِيفَ إلَيْهِ الْعِتْقُ هُوَ مَوْهُومُ الْوُجُودِ، قَدْ يُوجَدُ وَقَدْ لَا يُوجَدُ؛ لِأَنَّ قُدُومَ فُلَانٍ مَوْهُومُ الْوُجُودِ قَدْ يُوجَدُ وَقَدْ لَا يُوجَدُ، فَإِنْ وُجِدَ يُوجَدُ هَذَا الشَّهْرُ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا الشَّهْرَ لَا وُجُودَ لَهُ بِدُونِ الِاتِّصَافِ وَلَا اتِّصَافَ بِدُونِ الِاتِّصَالِ وَلَا اتِّصَالَ بِدُونِ الْقُدُومِ، إذْ الِاتِّصَالُ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بَيْنَ مَوْجُودَيْنِ لَا بَيْنَ مَوْجُودٍ وَمَعْدُومٍ فَصَارَ الْعِتْقُ، وَإِنْ كَانَ مُضَافًا إلَى الشَّهْرِ مُتَعَلِّقًا بِوُجُودِ الْقُدُومِ فَكَانَ هَذَا تَعْلِيقًا ضَرُورَةً فَيُقْتَصَرُ الْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ عَلَى حَالِ وُجُودِ الشَّرْطِ كَمَا فِي سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ، فَأَمَّا فِي مَسْأَلَةِ الْمَوْتِ فَبَعْدَ مَا مَضَى شَهْرٌ مِنْ زَمَنِ الْكَلَامِ لَمْ يَبْقَ ذَاتُ الشَّهْرِ الَّذِي أُضِيفَ إلَيْهِ الْعِتْقُ مَوْهُومَ الْوُجُودِ، بَلْ هُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، فَصَارَ هَذَا الشَّهْرُ مُتَحَقِّقَ الْوُجُودِ بِلَا شَكٍّ بِخِلَافِ الشَّهْرِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الدُّخُولِ وَالْقُدُومِ، غَيْرَ أَنَّهُ مَجْهُولُ الذَّاتِ، فَلَا يُحْكَمُ بِالْعِتْقِ قَبْلَ وُجُودِ الْمَوْتِ، وَإِذَا وُجِدَ، فَقَدْ وُجِدَ الْمُعَرِّفُ لِلشَّهْرِ، بِخِلَافِ الشَّهْرِ