هُنَاكَ فِعْلَانِ حَقِيقَةً فَجَازَ أَنْ يُفْرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمٍ، وَفِي مَسْأَلَةِ الرَّمْيِ جُعِلَ الْفِعْلُ الْمُتَّحِدُ حَقِيقَةً مُتَعَدِّدًا شَرْعًا بِخِلَافِ الْحَقِيقَةِ، وَمَنْ ادَّعَى خِلَافَ الْحَقِيقَةِ هَهُنَا يَحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ.
وَلَوْ قَطَعَ أُصْبُعًا فَسَقَطَ إلَى جَنْبِهَا أُخْرَى فَلَا قِصَاصَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعِنْدَهُمَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُمَا يَجِبُ فِي الْأَوَّلِ الْقِصَاصُ، وَفِي الثَّانِي الْأَرْشُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْجِرَاحَةَ الَّتِي فِيهَا الْقِصَاصُ إذَا تَوَلَّدَ مِنْهَا مَا يُمْكِنُ فِيهِ الْقِصَاصُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَهَهُنَا يُمْكِنُ وَفِيمَا إذَا قَطَعَ أُصْبُعًا فَشُلَّتْ أُخْرَى بِجَنْبِهَا لَا يُمْكِنُ فَوَجَبَ الْقِصَاصُ فِي الْأُولَى وَالْأَرْشُ فِي الثَّانِيَةِ.
وَجْهُ ظَاهِرِ قَوْلِهِمَا عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَحَلَّ مُتَعَدِّدٌ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ تَعَدُّدَ الْفِعْلِ عِنْدَ تَعَدُّدِ الْأَثَرِ، وَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا فَيُجْعَلُ كَجِنَايَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فَيَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حُكْمُهَا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ عَلَى وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْقَطْعُ الْمُسْقِطُ لِلْأُصْبُعِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَاحِدَةٌ حَقِيقَةً فَلَا تُوجِبُ إلَّا ضَمَانًا وَاحِدًا، وَقَدْ وَجَبَ الْمَالُ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصَ.
وَلَوْ قَطَعَ أُصْبُعَ رَجُلٍ عَمْدًا فَسَقَطَتْ الْكَفُّ مِنْ الْمَفْصِلِ فَلَا قِصَاصَ فِي ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِيهِ دِيَةُ الْيَدِ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمِثْلِ - وَهُوَ الْقَطْعُ الْمُسْقِطُ لِلْكَفِّ - مُتَعَذِّرٌ فَيُمْتَنَعُ الْوُجُوبُ؛ وَلِأَنَّ الْكَفَّ مَعَ الْأُصْبُعِ كَعُضْوٍ وَاحِدٍ فَكَانَتْ الْجِنَايَةُ وَاحِدَةً حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِمَا ضَمَانُ الْمَالِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا الْقِصَاصُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يُقْتَصُّ مِنْهُ فَتُقْطَعُ يَدُهُ مِنْ الْمَفْصِلِ فَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ مَا إذَا قَطَعَ أُصْبُعًا فَسَقَطَتْ أُخْرَى إلَى جَنْبِهَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الْأُصْبُعَ جُزْءٌ مِنْ الْكَفِّ، وَالسِّرَايَةُ تَتَحَقَّقُ مِنْ الْجُزْءِ إلَى الْجُمْلَةِ كَمَا تَتَحَقَّقُ مِنْ الْيَدِ إلَى النَّفْسِ، وَالْأُصْبُعَانِ عُضْوَانِ مُفْرَدَانِ لَيْسَ أَحَدُهُمَا جُزْءَ الْآخَرِ فَلَا تَتَحَقَّقُ السِّرَايَةُ مِنْ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ فَوَجَبَ الْقِصَاصُ فِي الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ، وَعَلَى مَا رَوَى مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي النَّوَادِرِ يَجِبُ الْقِصَاصُ هَهُنَا أَيْضًا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اللَّهُ - لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ سَرَتْ إلَى مَا يُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ قَطَعَ الْكَفَّ مِنْ الزَّنْدِ.
وَلَوْ كَسَرَ بَعْضَ سِنِّ إنْسَانٍ فَسَقَطَتْ لَا قِصَاصَ فِيهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاقْتِصَاصُ بِكَسْرِ مُسْقِطٍ لِلسِّنِّ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَجِبُ الْقِصَاصُ كَمَا قَالَ فِي الْأُصْبُعِ إذَا قُطِعَتْ فَسَقَطَتْ مِنْهَا الْكَفُّ.
وَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى رِوَايَةِ النَّوَادِرِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَصْلِهِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ ضَرَبَ سِنَّ إنْسَانٍ فَتَكَسَّرَ بَعْضُهَا وَتَحَرَّكَ الْبَاقِي وَاسْتَوْفَى حَوْلًا أَنَّهَا إنْ اسْوَدَّتْ فَلَا قِصَاصَ فِيهَا لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ، وَهُوَ الْكَسْرُ الْمُسْوَدُّ، وَإِنْ سَقَطَتْ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَفِيهَا الْأَرْشُ لِعَدَمِ إمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ، وَهُوَ الْكَسْرُ الْمُسْقِطُ، فَيَجِبُ فِيهَا الْأَرْشُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِيهَا الْقِصَاصُ كَمَا قَالَ فِي الْأُصْبُعِ إذَا قُطِعَتْ الْكَفُّ.
وَلَوْ شَجَّ إنْسَانًا مُوضِحَةً مُتَعَمِّدًا فَذَهَبَ مِنْهَا بَصَرُهُ فَلَا قِصَاصَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِيهَا وَفِي الْبَصَرِ الْأَرْشُ وَقَالَا فِي الْمُوضِحَةِ الْقِصَاصُ وَفِي الْبَصَرِ الدِّيَةُ، هَذِهِ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْ مُحَمَّدٍ.
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْهُ أَنَّ فِيهِمَا جَمِيعًا الْقِصَاصَ.
وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ تَوَلَّدَ مِنْ جِنَايَةِ الْعَمْدِ إلَى عُضْوٍ يُمْكِنُ فِيهِ الْقِصَاصُ فَيَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ كَمَا إذَا سَرَى إلَى النَّفْسِ وَجْهُ ظَاهِرِ قَوْلِهِمَا أَنَّ تَلَفَ الْبَصَرِ حَصَلَ مِنْ طَرِيقِ التَّسْبِيبِ لَا مِنْ طَرِيقِ السِّرَايَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الشَّجَّةَ تَبْقَى بَعْدَ ذَهَابِ الْبَصَرِ، وَحُدُوثُ السِّرَايَةِ يُوجِبُ تَغَيُّرَ الْجِنَايَةِ كَالْقَطْعِ إذَا سَرَى إلَى النَّفْسِ أَنَّهُ لَا يَبْقَى قَطْعًا بَلْ يَصِيرُ قَتْلًا، وَهُنَا الشَّجَّةُ لَمْ تَتَغَيَّرْ بَلْ بَقِيَتْ شَجَّةً كَمَا كَانَتْ فَدَلَّ أَنَّ ذَهَابَ الْبَصَرِ لَيْسَ مِنْ طَرِيقِ السِّرَايَةِ بَلْ مِنْ طَرِيقِ التَّسْبِيبِ، وَالْجِنَايَةُ بِطَرِيقِ التَّسْبِيبِ لَا تُوجِبُ الْقِصَاصَ كَمَا فِي حَفْرِ الْبِئْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَلَوْ ذَهَبَتْ عَيْنَاهُ وَلِسَانُهُ وَسَمْعُهُ وَجِمَاعُهُ فَلَا قِصَاصَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَلَى قَوْلِهِمَا فِي الْمُوضِحَةِ الْقِصَاصُ وَلَا قِصَاصَ فِي الْعَيْنَيْنِ فِي ظَاهِرِ قَوْلِهِمَا بَلْ فِيهِمَا الْأَرْشُ، وَعَلَى رِوَايَةِ النَّوَادِرِ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيهِمَا الْقِصَاصُ دُونَ اللِّسَانِ وَالسَّمْعِ وَالْجِمَاعِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ فِيهِمَا الْقِصَاصُ إذْ لَا قِصَاصَ فِي ذَهَابِ مَنْفَعَةِ اللِّسَانِ وَالسَّمْعِ وَالْجِمَاعِ فِي الشَّرْعِ، وَفِي ذَهَابِ الْبَصَرِ قِصَاصٌ فِي الشَّرِيعَةِ.
وَلَوْ ضَرَبَهُ بِعَصًا فَأَوْضَحَهُ ثُمَّ عَادَ فَضَرَبَهُ أُخْرَى إلَى جَنْبِهَا ثُمَّ تَآكَلَتَا حَتَّى صَارَتْ وَاحِدَةً فَهُمَا مُوضِحَتَانِ وَلَا قِصَاصَ فِيهِمَا، أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -