وَجْهَ لِلثَّانِي؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ السِّرَايَةَ تَكُونُ تَابِعَةً لِلْجِنَايَةِ فَالْجِنَايَةُ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً لِلْعَبْدِ لَا تَكُونُ سِرَايَتَهَا مَضْمُونَةً لَهُ، وَلِهَذَا قُلْنَا إذَا بَاعَهُ الْمَوْلَى بَعْدَ الْقَطْعِ سَقَطَ حُكْمُ السِّرَايَةِ وَلَيْسَ قَطْعُ الْيَدِ فِي هَذَا مِثْلَ الرَّمْيِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ بِالرَّمْيِ الْقِيمَةَ وَإِنْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى وَلَمْ يُوجِبْ فِي الْقَطْعِ إلَّا أَرْشَ الْيَدِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّمْيَ سَبَبُ الْإِصَابَةِ لَا مَحَالَةَ فَصَارَ جَانِيًا بِهِ وَقْتَ الرَّمْيِ (فَأَمَّا) الْقَطْعُ فَلَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلسِّرَايَةِ لَا مَحَالَةَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَإِنْ كَانَ قَطَعَ يَدَ الْعَبْدِ عَمْدًا فَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ وَارِثُهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَلَهُ أَنْ يَقْتُلَ الْجَانِيَ فِي قَوْلِهِمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ غَيْرَهُ يَحْجُبُهُ عَنْ مِيرَاثِهِ وَيَدْخُلُ مَعَهُ فِي مِيرَاثِهِ فَلَا قِصَاصَ لِاشْتِبَاهِ الْوَلِيِّ عَلَى مَا مَرَّ، وَلَوْ لَمْ يُعْتِقْهُ بَعْدَ الْقَطْعِ وَلَكِنَّهُ دَبَّرَهُ أَوْ كَانَتْ أَمَةً فَاسْتَوْلَدَهَا فَإِنَّهُ لَا تَنْقَطِعُ السِّرَايَةَ وَيَجِبُ نِصْفُ الْقِيمَةِ، وَيَجِبُ مَا نَقَصَ بَعْدَ الْجِنَايَةِ قَبْلَ الْمَوْتِ هَذَا إذَا كَانَ خَطَأً، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَقْتَصَّ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ كَاتَبَهُ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَبِالْكِتَابَةِ بَرِئَ عَنْ السِّرَايَةِ فَيَجِبُ نِصْفُ الْقِيمَةِ لِلْمَوْلَى فَإِذَا مَاتَ وَكَانَ خَطَأً لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَإِنْ كَانَ عَاجِزًا فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَقْتَصَّ لِأَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا، وَإِنْ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ فَقَدْ مَاتَ حُرًّا فَيُنْظَرُ إنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ يَحْجُبُ الْمَوْلَى أَوْ يُشَارِكُهُ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَرْشُ الْيَدِ لَا غَيْرُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرَ الْمَوْلَى فَلِلْمُوَلَّى أَنْ يَقْتَصَّ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ، وَعَلَيْهِ أَرْشُ الْيَدِ لَا غَيْرُ، وَإِنْ كَانَ الْقَطْعُ بَعْدَ الْكِتَابَةِ فَمَاتَ وَكَانَ الْقَطْعُ خَطَأً أَوْ مَاتَ عَاجِزًا فَالْقِيمَةُ لِلْمَوْلَى، وَإِنْ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ فَالْقِيمَةُ لِلْوَرَثَةِ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَإِنْ مَاتَ عَاجِزًا فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَقْتَصَّ، وَإِنْ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ مَاتَ حُرًّا ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ مَعَ الْمَوْلَى وَارِثٌ يَحْجُبُهُ أَوْ يُشَارِكُهُ فِي الْمِيرَاثِ فَلَا قِصَاصَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرَ الْمَوْلَى فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا كَانَتْ السِّرَايَةُ إلَى النَّفْسِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ إلَى الْعُضْوِ فَالْأَصْلُ أَنَّ الْجِنَايَةَ إذَا حَصَلَتْ فِي عُضْوٍ فَسَرَتْ إلَى عُضْوٍ آخَرَ - وَالْعُضْوُ الثَّانِي لَا قِصَاصَ فِيهِ - فَلَا قِصَاصَ فِي الْأَوَّلِ أَيْضًا، وَهَذَا الْأَصْلُ يَطَّرِدُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ فِي مَسَائِلَ.
إذَا قَطَعَ أُصْبُعًا مِنْ يَدِ رَجُلٍ فَشُلَّتْ الْكَفُّ فَلَا قِصَاصَ فِيهِمَا، وَعَلَيْهِ دِيَةُ الْيَدِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لِأَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْ الْقَاطِعِ قَطْعٌ مُشِلٌّ لِلْكَفِّ، وَلَا يُقَدَّرُ الْمَقْطُوعُ عَلَى مِثْلِهِ فَلَمْ يَكُنْ الْمِثْلُ مُمْكِنَ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَاحِدَةٌ فَلَا يَجِبُ بِهَا ضَمَانَانِ مُخْتَلِفَانِ وَهُوَ الْقِصَاصُ وَالْمَالُ خُصُوصًا عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ لِأَنَّ الْكَفَّ مَعَ الْأُصْبُعِ بِمَنْزِلَةِ عُضْوٍ وَاحِدٍ.
وَكَذَا إذَا قَطَعَ مَفْصِلًا مِنْ أُصْبُعٍ فَشُلَّ مَا بَقِيَ أَوْ شُلَّتْ الْكَفُّ لِمَا قُلْنَا فَإِنْ قَالَ الْمَقْطُوعُ: أَنَا أَقْطَعُ الْمَفْصِلَ، وَأَتْرُكُ مَا يَبِسَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَقَعَتْ غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِلْقِصَاصِ مِنْ الْأَصْلِ لِعَدَمِ إمْكَانِ الِاسْتِيفَاءِ عَلَى وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَكَانَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْبَعْضِ اسْتِيفَاءَ مَا لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا لَوْ شَجَّهُ مُنَقِّلَةً فَقَالَ الْمَشْجُوجُ أَنَا أَشُجُّهُ مُوضِحَةً وَأَتْرُكُ أَرْشَ مَا زَادَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ إذَا كَسَرَ بَعْضَ سِنِّ إنْسَانٍ وَاسْوَدَّ مَا بَقِيَ فَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قِصَاصٌ؛ لِأَنَّ قِصَاصَهُ هُوَ كَسْرٌ مُسْوَدٌّ لِلْبَاقِي، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَاحِدَةٌ فَلَا تُوجِبُ ضَمَانَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَلَوْ قَطَعَ أُصْبُعًا فَشُلَّتْ إلَى جَنْبِهَا أُخْرَى فَلَا قِصَاصَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَلَيْهِ دِيَةُ الْأُصْبُعَيْنِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ فِي الْأَوَّلِ لَا قِصَاصَ وَفِي الثَّانِي الْأَرْشُ، وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الْمَحَلَّ مُتَعَدِّدٌ وَالْفِعْلُ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْمَحَلِّ حُكْمًا، وَإِنْ كَانَ مُتَّحِدًا حَقِيقَةً لِتَعَدُّدِ أَثَرِهِ، وَهَهُنَا تَعَدَّدَ الْأَثَرُ فَيُجْعَلُ فِعْلَيْنِ فَيُفْرَدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمِهِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْأَوَّلِ وَالدِّيَةُ فِي الثَّانِي كَمَا لَوْ قَطَعَ أُصْبُعَ إنْسَانٍ فَانْسَلَّ السِّكِّينُ إلَى أُصْبُعٍ أُخْرَى خَطَأً فَقَطَعَهَا حَتَّى يَجِبَ الْقِصَاصَ فِي الْأَوَّلِ وَالدِّيَةُ فِي الثَّانِي.
وَكَمَا لَوْ رَمَى سَهْمًا إلَى إنْسَانٍ فَأَصَابَهُ وَنَفَذَ مِنْهُ وَأَصَابَ آخَرَ حَتَّى يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْأَوَّلِ وَالدِّيَةُ فِي الثَّانِي لِمَا قُلْنَا.
وَكَذَلِكَ هَذَا.
وَإِذَا تَعَدَّدَتْ الْجِنَايَةُ تُفْرَدُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِحُكْمِهَا فَيَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْأُولَى وَالْأَرْشُ فِي الثَّانِيَةِ.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ هُوَ الْمِثْلُ، وَالْمِثْلُ وَهُوَ الْقَطْعُ الْمُشِلُّ هَهُنَا غَيْرُ مَقْدُورِ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ؛ وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ مُتَّحِدَةٌ حَقِيقَةً، وَهِيَ قَطْعُ الْأُصْبُعِ، وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ ضَمَانُ الْمَالِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانُ الْقِصَاصِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَطَعَ أُصْبُعًا عَمْدًا فَنَفَذَ السِّكِّينُ إلَى أُخْرَى خَطَأً لِأَنَّ الْمَوْجُودَ