وَإِفْرَادُ كُلِّ جِنَايَةٍ بِحُكْمِهَا إلَّا أَنَّ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجَانِي، وَعَدَمِ الْبُرْءِ قَدْ يُجْعَلَانِ كَجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ كَأَنَّهُمَا حَصَلَا بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ تَقْدِيرًا، وَلَا يُمْكِنُ هَذَا التَّقْدِيرُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجَانِي لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِعْلًا لِصَاحِبِهِ حَقِيقَةً فَتَعَذَّرَ التَّقْدِيرُ فَبَقِيَ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِنَايَةً مُفْرَدَةً حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا فَيُفْرَدُ حُكْمُهَا، فَإِنْ كَانَتَا جَمِيعًا عَمْدًا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ، وَإِنْ كَانَتَا جَمِيعًا خَطَأً يَجِبُ الدِّيَةُ عَلَيْهِمَا يَتَحَمَّلُ عَنْهُمَا عَاقِلَتُهُمَا فِي الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَمْدًا، وَالْآخَرُ خَطَأً يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ، وَالْأَرْشُ فِي الْخَطَأِ.
وَلَوْ قَطَعَ أُصْبُعَ يَدِ رَجُلٍ عَمْدًا، وَقَطَعَ آخَرُ يَدَهُ مِنْ الزَّنْدِ فَمَاتَ فَالْقِصَاصُ عَلَى الثَّانِي فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ (وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ السِّرَايَةَ بِاعْتِبَارِ الْأَلَمِ، وَالْقَطْعُ الْأَوَّلُ اتَّصَلَ أَلَمُهُ بِالنَّفْسِ، وَتَكَامَلَ بِالثَّانِي فَكَانَتْ السِّرَايَةُ مُضَافَةً إلَى الْفِعْلَيْنِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا.
(وَلَنَا) أَنَّ السِّرَايَةَ بِاعْتِبَارِ الْآلَامِ الْمُتَرَادِفَةِ الَّتِي لَا تَتَحَمَّلُهَا النَّفْسُ إلَى أَنْ يَمُوتَ، وَقَطْعُ الْيَدِ يَمْنَعُ وُصُولَ الْأَلَمِ مِنْ الْأُصْبُعِ إلَى النَّفْسِ فَكَانَ قَطْعًا لِلسِّرَايَةِ فَبَقِيَتْ السِّرَايَةُ مُضَافَةً إلَى قَطْعِ الْيَدِ، وَصَارَ كَمَا لَوْ قَطَعَ الْأُصْبُعَ فَبَرِئَتْ ثُمَّ قَطَعَ آخَرُ يَدَهُ فَمَاتَ، وَهُنَاكَ الْقِصَاصُ عَلَى الثَّانِي، كَذَا هَذَا بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْأَثَرِ، وَهُوَ وُصُولُ الْأَلَمِ إلَى النَّفْسِ فَوْقَ الْبُرْءِ إذْ الْبُرْءُ يَحْتَمِلُ الِانْتِقَاصَ، وَالْقَطْعُ لَا يَحْتَمِلُ ثُمَّ زَوَالُ الْأَثَرِ بِالْبُرْءِ يَقْطَعُ السِّرَايَةَ فَزَوَالُهُ بِالْقَطْعِ كَانَ أَوْلَى وَأَحْرَى وَلَوْ جَنَى عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ فَسَرَى فَالسِّرَايَةُ لَا تَخْلُو إمَّا إنْ كَانَتْ إلَى النَّفْسِ، وَإِمَّا إنْ كَانَتْ إلَى عُضْوٍ آخَرَ فَإِنْ كَانَتْ إلَى النَّفْسِ فَالْجَانِي لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي الْجِنَايَةِ وَإِمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي الْجِنَايَةِ وَالْجِنَايَةُ بِحَدِيدٍ أَوْ بِخَشَبَةٍ تَعْمَلُ عَمَلَ السِّلَاحِ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ سَوَاءٌ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مِمَّا تُوجِبُ الْقِصَاصَ لَوْ بَرِئَتْ أَوْ لَا تُوجِبُ، كَمَا إذَا قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ مِنْ الزَّنْدِ أَوْ مِنْ السَّاعِدِ أَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً أَوْ آمَّةً أَوْ جَائِفَةً أَوْ أَبَانَ طَرَفًا مِنْ أَطْرَافِهِ أَوْ جَرَحَهُ جِرَاحَةً مُطْلَقَةً فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ لَمَّا سَرَى بَطَلَ حُكْمُ مَا دُونَ النَّفْسِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ قَتْلًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ، وَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَقْتُلَهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ حَتَّى لَوْ كَانَ قَطَعَ يَدَهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ فَإِنْ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ وَإِلَّا قَتَلَهُ.
وَكَذَلِكَ إذَا قَطَعَ رَجُلٌ يَدَ رَجُلٍ وَرَجُلَيْهِ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ تُحَزُّ رَقَبَتُهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يُفْعَلُ بِهِ مِثْلُ مَا فَعَلَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَلَوْ قَطَعَ يَدَهُ فَعَفَا الْمَقْطُوعُ عَنْ الْقَطْعِ ثُمَّ سَرَى إلَى النَّفْسِ وَمَاتَ فَإِنْ عَفَا عَنْ الْجِنَايَةِ أَوْ عَنْ الْقَطْعِ، وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ أَوْ الْجِرَاحَةُ، وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا فَهُوَ عَنْ النَّفْسِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ عَفَا عَنْ الْقَطْعِ أَوْ الْجِرَاحَةِ وَلَمْ يَقُلْ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا لَا يَكُونُ عَفْوًا عَنْ النَّفْسِ، وَعَلَى الْقَاطِعِ دِيَةُ النَّفْسِ فِي مَالِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَفِي قَوْلِهِمَا يَكُونُ عَفْوًا عَنْ النَّفْسِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِأَخَوَاتِهَا قَدْ مَرَّتْ فِي مَسَائِلِ الْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ.
وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ قِصَاصٌ فِي النَّفْسِ فَقَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ عَفَا عَنْ النَّفْسِ، وَبَرِئَتْ الْيَدُ ضَمِنَ دِيَةَ الْيَدِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ لَا ضَمَان عَلَيْهِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا إنَّ نَفْسَ الْقَاتِلِ بِالْقَتْلِ صَارَتْ حَقًّا لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ، وَالنَّفْسُ اسْمٌ لِجُمْلَةِ الْأَجْزَاءِ فَإِذَا قَطَعَ يَدَهُ فَقَدْ اسْتَوْفَى حَقَّ نَفْسِهِ فَلَا يَضْمَنُ، وَلِهَذَا لَوْ قَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْيَدِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْيَدُ حَقَّهُ لَوَجَبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ دَلَّ أَنَّهُ بِالْقَطْعِ اسْتَوْفَى حَقَّ نَفْسِهِ فَبَعْدَ ذَلِكَ إنْ عَفَا عَنْ النَّفْسِ فَالْعَفْوُ يَنْصَرِفُ إلَى الْقَائِمِ لَا إلَى الْمُسْتَوْفِي كَمَنْ اسْتَوْفَى بَعْضَ دِيَتِهِ ثُمَّ أَبْرَأَ الْغَرِيمَ إنَّ الْإِبْرَاءَ يَنْصَرِفُ إلَى مَا بَقِيَ لَا إلَى الْمُسْتَوْفِي كَذَا هَذَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّ حَقَّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي الْفِعْلِ وَهُوَ الْقَتْلُ لَا فِي الْمَحَلِّ وَهُوَ النَّفْسُ، أَوْ يُقَالُ حَقُّهُ فِي النَّفْسِ لَكِنْ فِي الْقَتْلِ لَا فِي حَقِّ الْقَطْعِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْمِثْلِ وَالْمَوْجُودُ مِنْهُ الْقَتْلُ لَا الْقَطْعُ، وَمِثْلُ الْقَتْلِ هُوَ الْقَتْلُ فَكَانَ أَجْنَبِيًّا عَنْ الْيَدِ فَإِذَا قَطَعَ الْيَدَ فَقَدْ اسْتَوْفَى مَا لَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ وَهُوَ مُتَقَوِّمٌ فَيَضْمَنُ.
وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ إلَّا أَنَّهُ إذَا قَطَعَ الْيَدَ ثُمَّ قَتَلَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْيَدِ، وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي الْقَطْعِ مُسِيئًا فِيهِ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهَا مَعَ إتْلَافِ النَّفْسِ بِالْقِصَاصِ فَلَا يَضْمَنُ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ مُرْتَدٍّ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي الْقَطْعِ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا وَلِأَنَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْقِصَاصِ وَبَيْنَ الْعَفْوِ فَإِذَا عَفَا اسْتَنَدَ الْعَفْوُ إلَى الْأَصْلِ كَأَنَّهُ عَفَا ثُمَّ قَطَعَ فَكَانَ الْقَطْعُ اسْتِيفَاءَ غَيْرِ حَقِّهِ فَيَضْمَنُ هَذَا إذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي الْجِنَايَةِ عَلَى