الْمِثْلُ مَعْنًى وَهُوَ الْقِيمَةُ؛ لِأَنَّهَا الْمِثْلُ الْمُمْكِنُ، وَالْأَصْلُ فِي ضَمَانِ الْقِيمَةِ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِي عَبْدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ لِلَّذِي لَمْ يُعْتَقْ وَالنَّصُّ الْوَارِدُ فِي الْعَبْدِ يَكُونُ وَارِدًا فِي إتْلَافِ كُلِّ مَا لَا مِثْلَ لَهُ دَلَالَةً وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

(وَأَمَّا) شَرْطُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَشَرْطُ وُجُوبِ ضَمَانِ الْمِثْلِ وَالْقِيمَةِ عَلَى الْغَاصِبِ: عَجْزُهُ عَنْ رَدِّ الْمَغْصُوبِ، فَمَا دَامَ قَادِرًا عَلَى رَدِّهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَخَذَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلْغَصْبِ: هُوَ وُجُوبُ رَدِّ عَيْنِ الْمَغْصُوبِ؛ لِأَنَّ بِالرَّدِّ يَعُودُ عَيْنُ حَقِّهِ إلَيْهِ وَبِهِ يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ عَنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَالضَّمَانُ خَلَفٌ عَنْ رَدِّ الْعَيْنِ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى الْخَلَفِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ رَدِّ الْأَصْلِ، وَسَوَاءٌ عَجَزَ عَنْ الرَّدِّ بِفِعْلِهِ بِأَنْ اسْتَهْلَكَهُ، أَوْ بِفِعْلِ غَيْرِهِ بِأَنْ اسْتَهْلَكَهُ غَيْرُهُ، أَوْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ بِأَنْ هَلَكَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ إنَّمَا صَارَ مَضْمُونًا بِالْغَصْبِ السَّابِقِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ ذَلِكَ لَا بِالْهَلَاكِ؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ لَيْسَ صُنْعَهُ، لَكِنْ عِنْدَ الْهَلَاكِ يَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ يَتَقَرَّرُ الْعَجْزُ عَنْ رَدِّ الْعَيْنِ فَيَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ.

وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا ادَّعَى الْغَاصِبُ هَلَاكَ الْمَغْصُوبِ، وَلَمْ يُصَدِّقْهُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ أَنَّهُ يَطْلُبُ مِنْهُ بَيِّنَةً، فَإِنْ أَقَامَهَا وَإِلَّا حَبَسَهُ الْقَاضِي مُدَّةً يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي يَدِهِ لَأَظْهَرَهُ، ثُمَّ قَضَى عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ ثَبَتَ عَجْزُهُ عَنْ رَدِّ الْعَيْنِ فَيُحْبَسُ، كَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَطُولِبَ بِهِ فَادَّعَى الْإِفْلَاسَ، وَمِنْ شَرْطِ الْخِطَابِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ أَنْ يَكُونَ الْمِثْلُ مَوْجُودًا فِي أَيْدِي النَّاس، حَتَّى لَوْ غَصَبَ شَيْئًا لَهُ مِثْلٌ، ثُمَّ انْقَطَعَ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ لَا يُخَاطَبُ بِأَدَائِهِ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَقْدُورٍ، بَلْ يُخَاطَبُ بِالْقِيمَةِ، وَلَوْ اخْتَصَمَا فِي حَالِ انْقِطَاعِهِ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ، فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُحْكَمُ عَلَى الْغَاصِبِ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ يَخْتَصِمُونَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَوْمَ الْغَصْبِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَوْمَ الِانْقِطَاعِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْغَصْبَ أَوْجَبَ الْمِثْلَ عَلَى الْغَاصِبِ وَالْمَصِيرُ إلَى الْقِيمَةِ لِلتَّعَذُّرِ، وَالتَّعَذُّرُ حَصَلَ بِسَبَبِ الِانْقِطَاعِ، فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الِانْقِطَاعِ، كَمَا لَوْ اسْتَهْلَكَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.

وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ ضَمَانِ الْمِثْلِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ، وَالْقِيمَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ هُوَ الْغَصْبُ، وَالْحُكْمُ يُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ وُجُودِ سَبَبِهِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ أَنَّ الْوَاجِبَ كَانَ مِثْلَ الْمَغْصُوبِ، وَبِالِانْقِطَاعِ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ لَمْ يَبْطُلْ الْوَاجِبُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَا ثَبَتَ يَبْقَى لِتَوَهُّمِ الْفَائِدَةِ، وَتَوَهُّمُ الْعَوْدِ هَهُنَا ثَابِتٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْمَالِكِ أَنْ يَخْتَارَ الِانْتِظَارَ إلَى وَقْتِ إدْرَاكِهِ فَيَأْخُذَ الْمِثْلَ، وَإِذَا بَقِيَ الْمِثْلُ وَاجِبًا بَعْدَ الِانْقِطَاعِ فَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ حَقُّهُ مِنْ الْمِثْلِ إلَى الْقِيمَةِ بِالْخُصُومَةِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْخُصُومَةِ، فَأَمَّا عِلْمُ الْغَاصِبِ بِكَوْنِ الْمَغْصُوبِ مِلْكَ غَيْرِهِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، حَتَّى لَوْ أَخَذَ مَالًا عَلَى وَجْهٍ يَحِقُّ لَهُ أَخْذُهُ ظَاهِرًا وَفِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِهِ، كَمَا إذَا اشْتَرَى شَيْئًا أَوْ مَلَكَهُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَتَصَرَّفَ فِيهِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ يَضْمَنُ لَكِنْ لَا إثْمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِتَحَقُّقِ الْغَصْبِ، وَهُوَ شَرْطُ ثُبُوتِ الْمُؤَاخَذَةِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] .

(وَأَمَّا) وَقْتُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَوَقْتُ وُجُودِ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ بِالْغَصْبِ، وَوَقْتُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ: وَقْتُ وُجُودِ سَبَبِهِ، فَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْمَغْصُوبِ يَوْمَ الْغَصْبِ، حَتَّى لَا يَتَغَيَّرَ بِتَغَيُّرِ السِّعْرِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَلَا تَغَيُّرِ الْمَحَلِّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ تَرَاجُعَ السِّعْرِ لِفُتُورٍ يُحْدِثُهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ.

(وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْغَاصِبُ عَنْ عُهْدَةِ الضَّمَانِ: فَاَلَّذِي يَخْرُجُ بِهِ عَنْ عُهْدَتِهِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَدَاءُ الضَّمَانِ إلَى الْمَالِكِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي طَرِيقِ الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ أَدَاؤُهُ، وَلَوْ هَلَكَ الْمَغْصُوبُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ الثَّانِي فَأَدَّى الْقِيمَةَ إلَى الْغَاصِبِ الْأَوَّلِ يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي.

وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الضَّمَانَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ لِلْمَالِكِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ إلَّا بِالْأَدَاءِ إلَى الْمَالِكِ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّ الضَّمَانَ خَلَفٌ عَنْ الْعَيْنِ قَائِمٌ مَقَامَهُ، ثُمَّ لَوْ رَدَّ الْعَيْنَ بَرِئَ عَنْ الضَّمَانِ، فَكَذَا إذَا رَدَّ الْقِيمَةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رَدُّ الْعَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَالثَّانِي الْإِبْرَاءُ وَهُوَ نَوْعَانِ: صَرِيحٌ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ دَلَالَةً.

(أَمَّا) الْأَوَّلُ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ: أَبْرَأْتُكَ عَنْ الضَّمَانِ، أَوْ أَسْقَطْتُهُ عَنْكَ، أَوْ وَهَبْتُهُ مِنْكَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَيَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْقَاطِ، وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلسُّقُوطِ فَيَسْقُطُ.

وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ أَنْ يَخْتَارَ الْمَالِكُ تَضْمِينَ أَحَدِ الْغَاصِبَيْنِ فَيَبْرَأُ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَ تَضْمِينِ أَحَدِهِمَا إبْرَاءٌ لِلْآخَرِ دَلَالَةً لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015