كَانَ يُبَاعُ وَزْنًا فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ بِالضَّرْبِ وَالصِّنَاعَةِ عَنْ حَدِّ الْوَزْنِ.

وَإِنْ كَانَ يُبَاعُ عَدَدًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مَوْزُونًا بِخِلَافِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَزْنَ فِيهِمَا أَصْلٌ لَا يُتَصَوَّرُ سُقُوطُهُ أَبَدًا، وَلَوْ غَصَبَ ثَوْبًا فَقَطَّعَهُ وَلَمْ يَخِطْهُ، أَوْ شَاةً فَذَبَحَهَا وَلَمْ يَشْوِهَا وَلَا طَبَخَهَا لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ، إذْ الذَّبْحُ لَيْسَ بِاسْتِهْلَاكٍ، بَلْ هُوَ تَنْقِيصٌ وَتَعْيِيبٌ، فَلَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ، بَلْ يُوجِبُ الْخِيَارَ لِلْمَالِكِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يَصِيرُ الْمَالِكُ بِهِ مُسْتَرِدًّا لِلْمَغْصُوبِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الْأَصْلُ أَنَّ الْمَالِكَ يَصِيرُ مُسْتَرِدًّا لِلْمَغْصُوبِ بِإِثْبَاتِ يَدِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَغْصُوبًا بِتَفْوِيتِ يَدِهِ عَنْهُ، فَإِذَا أَثْبَتَ يَدَهُ عَلَيْهِ، فَقَدْ أَعَادَهُ إلَى يَدِهِ فَزَالَتْ يَدُ الْغَاصِبِ ضَرُورَةً، إلَّا أَنْ يَغْصِبَهُ ثَانِيًا.

وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ الْمَسَائِلُ إذَا كَانَ الْمَغْصُوبُ عَبْدًا فَاسْتَخْدَمَهُ، أَوْ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ، أَوْ دَابَّةً فَرَكِبَهَا أَوْ حَمَلَ عَلَيْهَا صَارَ مُسْتَرِدًّا لَهُ، وَيَبْرَأُ الْغَاصِبُ مِنْ الضَّمَانِ لِمَا قُلْنَا سَوَاءٌ عَلِمَ الْمَالِكُ أَنَّهُ مِلْكُهُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ الْيَدِ عَلَى الْعَيْنِ أَمْرٌ حِسِّيٌّ لَا يَخْتَلِفُ بِالْعِلْمِ أَوْ الْجَهْلِ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ الْعِلْمُ شَرْطًا لِتَحَقُّقِ الْغَصْبِ، فَلَا يَكُونُ شَرْطًا لِبُطْلَانِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ طَعَامًا فَأَكَلَهُ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ يَدَهُ عَلَيْهِ فَبَطَلَتْ يَدُ الْغَاصِبِ، وَكَذَا إذَا أَطْعَمَهُ الْغَاصِبُ يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَبْرَأُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ غَرَّهُ فِي ذَلِكَ حَيْثُ أَطْعَمَهُ وَلَمْ يُعْلِمْهُ أَنَّهُ مِلْكُهُ، فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الضَّمَانُ.

(وَلَنَا) أَنَّهُ أَكْلَ طَعَامَ نَفْسِهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الضَّمَانَ عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَاسْتَهْلَكَهُ، وَقَوْلُهُ غَرَّهُ الْغَاصِبُ مَمْنُوعٌ، بَلْ هُوَ الَّذِي اغْتَرَّ بِنَفْسِهِ حَيْثُ تَنَاوَلَ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ أَنَّهُ مِلْكُهُ أَوْ مِلْكُ الْغَاصِبِ، وَالْمُغْتَرُّ بِنَفْسِهِ لَا يَسْتَحِقُّ الضَّمَانَ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَغْصُوبُ عَبْدًا فَآجَرَهُ مِنْ الْغَاصِبِ لِلْخِدْمَةِ، أَوْ ثَوْبًا فَآجَرَهُ مِنْهُ لِلُبْسِ، أَوْ دَابَّةً لِلرُّكُوبِ وَقَبِلَ الْغَاصِبُ الْإِجَارَةَ بَرِئَ عَنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ إذَا صَحَّتْ صَارَتْ يَدُ الْغَاصِبِ عَلَى الْمَحَلِّ يَدَ إجَارَةٍ، وَأَنَّهَا يَدٌ مُحِقَّةٌ فَتَبْطُل يَدُ الْغَصْبِ ضَرُورَةً، فَيَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ حِينَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْإِجَارَةُ بِالْإِجَارَةِ، وَقَالُوا فِي الْغَاصِبِ إذَا آجَرَ الْعَبْدَ الْمَغْصُوبَ مِنْ مَوْلَاهُ لِيَبْنِيَ لَهُ حَائِطًا مَعْلُومًا أَنَّهُ يَسْقُطُ ضَمَانُ الْغَصْبِ حِينَ يَبْتَدِئُ بِالْبِنَاءِ؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ عَنْ الضَّمَانِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا مُتَعَلِّقَةٌ بِوُجُوبِ الْأُجْرَةِ، وَالْأُجْرَةُ فِي اسْتِئْجَارِ الْعَبْدِ وَالثَّوْبِ تَجِبُ بِالتَّسْلِيمِ وَهُوَ التَّخْلِيَةُ.

وَهَهُنَا تَجِبُ بِالْعَمَلِ لَا بِنَفْسِ التَّخْلِيَةِ؛ لِذَلِكَ افْتَرَقَا، وَلَوْ زَوَّجَ الْأَمَةَ الْمَغْصُوبَةَ مِنْ الْغَاصِبِ لَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ فِي.

قِيَاسِ.

قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَبْرَأُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِي هَلْ يَصِيرُ قَابِضًا بِالتَّزْوِيجِ أَمْ لَا؟ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْبَيْعِ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ الْغَاصِبُ لِتَعْلِيمِ الْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ عَمَلًا مِنْ الْأَعْمَالِ فَهُوَ جَائِزٌ، لَكِنَّهُ لَا يَصِيرُ مُسْتَرِدًّا لِلْعَبْدِ وَلَا يَبْرَأُ الْغَاصِبُ عَنْ الضَّمَانِ، بَلْ هُوَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ عَلَى ضَمَانِهِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ أَوْ بَعْدَهُ ضَمِنَ.

وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجِرْهُ لِغَسْلِ الثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ هَاهُنَا مَا وَقَعَتْ عَلَى الْمَغْصُوبِ، فَلَمْ تَثْبُتْ يَدُ الْإِجَارَةِ عَلَيْهِ لِتَبْطُلَ عَنْهُ يَدُ الْغَاصِبِ، فَبَقِيَ فِي يَدِ الْغَصْبِ كَمَا كَانَ، فَبَقِيَ مَضْمُونًا كَمَا كَانَ بِخِلَافِ اسْتِئْجَارِ الْمَغْصُوبِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَإِذَا رَدَّ الْغَاصِبُ الثَّانِي الْمَغْصُوبَ عَلَى الْغَاصِبِ الْأَوَّلِ بَرِئَ؛ لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ الْمَالِكِ مِنْ وَجْهٍ فَيَصِحُّ الرَّدُّ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

(وَأَمَّا) الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِحَالِ هَلَاكِ الْمَغْصُوبِ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الْغَاصِبِ، وَالثَّانِي: مِلْكُ الْغَاصِبِ الْمَضْمُونَ.

(أَمَّا) وُجُوبُ الضَّمَانِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الضَّمَانِ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْغَاصِبُ عَنْ عُهْدَتِهِ.

(أَمَّا) الْأَوَّلُ فَالْمَغْصُوبُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ، فَعَلَى الْغَاصِبِ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ ضَمَانِ الْغَصْبِ ضَمَانُ اعْتِدَاءٍ، وَالِاعْتِدَاءُ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا بِالْمِثْلِ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وَالْمِثْلُ الْمُطْلَقُ هُوَ الْمِثْلُ صُورَةً وَمَعْنًى، فَأَمَّا الْقِيمَةُ فَمِثْلٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ، وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ ضَمَانُ جَبْرِ الْفَائِتِ، وَمَعْنَى الْجَبْرِ بِالْمِثْلِ أَكْمَلُ مِنْهُ مِنْ الْقِيمَةِ، فَلَا يَعْدِلُ عَنْ الْمِثْلِ إلَى الْقِيمَةِ إلَّا عِنْدَ التَّعَذُّرِ، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْجَوْزُ وَالْبَيْضُ مَضْمُونَانِ بِالْقِيمَةِ لَا بِالْمِثْلِ.

وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ الْمَذْرُوعَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ إيجَابُ الْمِثْلِ صُورَةً وَمَعْنًى؛ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ فَيَجِبُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015