ضَمَانَ عَلَى السَّارِقِ؛ لِمَا بَيَّنَّا وَلَوْ صَبَغَهُ أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ فَكَذَلِكَ لَا سَبِيلَ لِلْمَالِكِ عَلَى الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِهِمَا يَأْخُذُ الْمَالِكُ الثَّوْبَ، وَيُعْطِيهِ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ هَذَا مِنْ الْغَاصِبِ لَخُيِّرَ الْمَالِكُ بَيْنَ أَنْ يَضْمَنَ الْغَاصِبُ قِيمَةَ الثَّوْبِ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الثَّوْبَ، وَيُعْطِيَهُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ، إلَّا أَنَّ التَّضْمِينَ هَهُنَا مُتَعَذَّرٌ لِضَرُورَةِ الْقَطْعِ فَتَعَيَّنَ الْوَجْهُ الْآخَرُ وَهُوَ: أَنْ يَأْخُذَ الثَّوْبَ، وَيُعْطِيَهُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ إذْ الْغَصْبُ، وَالسَّرِقَةُ لَا يَخْتَلِفَانِ فِي هَذَا الْبَابِ إلَّا فِي الضَّمَانِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْغَصْبِ، وَالسَّرِقَةِ هَهُنَا وَهُوَ: أَنَّ حَقَّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ إنَّمَا لَمْ يَنْقَطِعْ عَنْ الثَّوْبِ بِالصَّبْغِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الثَّوْبِ مِلْكُهُ، وَهُوَ مُتَقَوِّمٌ، وَلِلْغَاصِبِ فِيهِ حَقٌّ مُتَقَوِّمٌ أَيْضًا، إلَّا أَنَّا أَثْبَتْنَا الْخِيَارَ لِلْمَالِكِ لَا لِلْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ صَاحِبُ أَصْلٍ، وَالْغَاصِبَ صَاحِبُ وَصْفٍ، وَهَهُنَا حَقُّ السَّارِقِ فِي الصَّبْغِ مُتَقَوِّمٌ، وَحَقُّ الْمَالِكِ فِي أَصْلِ الثَّوْبِ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ السَّارِقِ لِأَجْلِ الْقَطْعِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَتْلَفَهُ السَّارِقُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، فَاعْتُبِرَ حَقُّ السَّارِقِ، وَجُعِلَ حَقُّ الْمَالِكِ فِي الْأَصْلِ تَبَعًا لَحَقِّهِ فِي الْوَصْفِ، وَتَعَذَّرَ تَضْمِينُهُ لِضَرُورَةِ الْقَطْعِ فَيَكُونُ لَهُ مَجَّانًا، وَلَكِنْ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَذَا الثَّوْبِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ كَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ عَلَى مِلْكِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ رَدُّهُ، وَتَضْمِينُهُ فِي الْحُكْمِ، وَالْقَضَاءِ، فَمَا لَمْ يَمْلِكْهُ السَّارِقُ لَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِوَجْهٍ مَحْظُورٍ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ لِتَعَذُّرِ إيجَابِ الضَّمَانِ؛ فَلَا يُبَاحُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ مَالُ إنْسَانٍ فِي يَدِ غَيْرِهِ عَلَى وَجْهٍ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِبُ الرَّدِّ، وَالضَّمَانُ إلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ، لَكِنْ لَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - كَالْمُسْلِمِ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَأَخَذَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالرَّدِّ، وَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ - جَلَّ جَلَالُهُ.
وَكَذَلِكَ الْبَاغِي إذَا أَتْلَفَ مَالَ الْعَادِلِ، ثُمَّ تَابَ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ، وَيُفْتَى بِهِ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَكَذَلِكَ الْحَرْبِيُّ إذَا أَتْلَفَ شَيْئًا مِنْ مَالِنَا، ثُمَّ أَسْلَمَ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالرَّدِّ، وَيُفْتَى بِذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ - جَلَّتْ عَظَمَتُهُ - وَكَذَلِكَ السَّارِقُ إذَا اسْتَهْلَكَ الْمَسْرُوقَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ، وَلَكِنْ يُفْتَى بِهِ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَا قَاطِعُ الطَّرِيقِ إذَا قَتَلَ إنْسَانًا بِعَصًا ثُمَّ جَاءَ تَائِبًا بَطَلَ عَنْهُ الْحَدُّ، وَيُؤْمَرُ بِأَدَاءِ الدِّيَةِ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ، وَلَوْ قَتَلَ حَرْبِيٌّ مُسْلِمًا بِعَصًا، ثُمَّ أَسْلَمَ لَا يُفْتَى بِدَفْعِ الدِّيَةِ إلَى الْوَلِيِّ، بِخِلَافِ الْبَاغِي، وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْقَتْلَ مِنْ الْحَرْبِيِّ لَمْ يَقَعْ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ عِصْمَةَ الْمَقْتُولِ لَمْ تَظْهَرْ فِي حَقِّهِ، فَلَا يُجَبُّ بِالْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ، بِخِلَافِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ، وَقَعَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِالضَّمَانِ لِمَانِعٍ، وَهُوَ ضَرُورَةُ إقَامَةِ الْحَدِّ، إلَّا أَنَّ الْحَدَّ إذَا لَمْ يَجِبْ لِشُبْهَةٍ يُحْكَمُ بِالضَّمَانِ فَيَظْهَرُ أَثَرُ الْمَانِعِ فِي الْحُكْمِ، وَالْقَضَاءِ لَا فِي الْفَتْوَى، وَكَذَا فِعْلُ الْبَاغِي، وَقَعَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ لَكِنْ لَمْ يُحْكَمْ بِالْوُجُوبِ لِمَانِعٍ، وَهُوَ عَدَمُ الْفَائِدَةِ لِقِيَامِ الْمَنَعَةِ، وَهَذَا الْمَانِعُ يَخُصُّ الْحُكْمَ، وَالْقَضَاءَ، فَكَانَ الْوُجُوبُ ثَابِتًا عِنْدَ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَيُقْضَى بِهِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا سَرَقَ نَقْرَةَ فِضَّةٍ فَضَرَبَهَا دَرَاهِمَ أَنَّهُ يُقْطَعُ، وَالدَّرَاهِمُ تُرَدُّ عَلَى صَاحِبِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَعِنْدَهُمَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ عَنْ الدَّرَاهِمِ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا الصُّنْعَ لَا يَقْطَعُ حَقَّ الْمَالِكِ فِي بَابِ الْغَصْبِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يَنْقَطِعُ، وَلَوْ سَرَقَ حَدِيدًا، أَوْ صُفْرًا، أَوْ نُحَاسًا، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَضَرَبَهَا أَوَانِيَ يُنْظَرُ إنْ كَانَ بَعْدَ الصِّنَاعَةِ، وَالضَّرْبِ تُبَاعُ وَزْنًا فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَتْ تُبَاعُ عَدَدًا فَيُقْطَعُ حَقُّ الْمَالِكِ بِالْإِجْمَاعِ - كَمَا فِي الْغَصْبِ - وَعَلَى هَذَا إذَا سَرَقَ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، وَسَنَذْكُرُ جُمْلَةَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -، وَاَللَّهُ أَعْلَم بِالصَّوَابِ.
(كِتَابُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ)
الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ عَلَى نَحْوِ الْكَلَامِ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ، وَذَلِكَ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ رُكْنِ قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَظْهَرُ بِهِ قَطْعُ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْقَاضِي، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ قَطْعِ الطَّرِيقِ (فَصْلٌ) :
أَمَّا رُكْنَهُ فَهُوَ الْخُرُوجُ عَلَى الْمَارَّةِ لِأَخْذِ الْمَالِ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَالَبَةِ عَلَى وَجْهٍ يَمْتَنِعُ الْمَارَّةُ عَنْ الْمُرُورِ، وَيَنْقَطِعُ الطَّرِيقُ سَوَاءٌ كَانَ الْقَطْعُ مِنْ جَمَاعَةٍ، أَوْ مِنْ وَاحِدٍ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ لَهُ قُوَّةُ الْقَطْعِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَطْعُ بِسِلَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْعَصَا