الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فَيُوجِبُ الْقَطْعَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ الْمَشْقُوقَ لَا يَزُولُ عَنْ مِلْكِهِ مَادَامَ مُخْتَارًا لِلْعَيْنِ، وَإِنَّمَا يَزُولُ عِنْدَ اخْتِيَارِ الضَّمَانِ، فَقَبْلَ الِاخْتِيَارِ كَانَ الثَّوْبُ عَلَى مِلْكِهِ فَصَارَ سَارِقًا ثَوْبَيْنِ قِيمَتُهُمَا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَيُقْطَعُ، وَهَكَذَا نَقُولُ فِي الشَّاةِ: إنَّ السَّرِقَةَ تَمَّتْ فِي مِلْكِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ إلَّا أَنَّهَا تَمَّتْ فِي اللَّحْمِ، وَلَا قَطْعَ فِي اللَّحْمِ.
وَقَوْلُهُ: وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ بِالشَّقِّ، قُلْنَا قَبْلَ الِاخْتِيَارِ: مَمْنُوعٌ فَإِذَا اخْتَارَ تَضْمِينَ السَّارِقِ، وَسَلَّمَ الثَّوْبَ إلَيْهِ لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ اخْتِيَارِ الضَّمَانِ مَلَكَهُ مِنْ حِينِ وُجُودِ الشَّقِّ؛ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْرَجَ مِلْكَ نَفْسِهِ عَنْ الْحِرْزِ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ، وَحُكِيَ عَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ شَقَّ الثَّوْبَ عَرْضًا، فَأَمَّا لَوْ شَقَّهُ طُولًا فَلَا قَطْعَ؛ لِأَنَّهُ بِالشَّقِّ طُولًا خَرَقَهُ خَرْقًا مُتَفَاحِشًا فَيَمْلِكُهُ بِالضَّمَانِ، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ أَنَّ السَّارِقَ إذَا خَرَقَ الثَّوْبَ تَخْرِيقًا مُسْتَهْلَكًا، وَقِيمَتُهُ بَعْدَ تَخْرِيقِهِ عَشَرَةٌ: أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ التَّخْرِيقَ إذَا وَقَعَ اسْتِهْلَاكًا أَوْجَبَ اسْتِقْرَارَ الضَّمَانِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ مِلْكَ الْمَضْمُونِ.
وَإِذَا لَمْ يَقَعْ اسْتِهْلَاكًا؛ كَانَ وُجُوبُ الضَّمَانِ فِيهِ مَوْقُوفًا عَلَى اخْتِيَارِ الْمَالِكِ، فَلَا يَجِبُ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ، فَلَا يَمْلِكُ الْمَضْمُونَ، - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا سَرَقَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِنْ غَرِيمٍ لَهُ عَلَيْهِ عَشَرَةٌ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَأْخُوذَ بِنَفْسِ الْأَخْذِ فَصَارَ قِصَاصًا بِحَقِّهِ، فَلَمْ يَبْقَ فِي حَقِّ هَذَا الْمَالِ سَارِقًا، فَلَا يُقْطَعُ، وَلَوْ كَانَ الْمَسْرُوقُ مِنْ خِلَافِ جِنْسِ حَقِّهِ يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ بِنَفْسِ الْأَخْذِ، بَلْ بِالِاسْتِبْدَالِ وَالْبَيْعِ، فَكَانَ سَارِقًا مِلْكَ غَيْرِهِ فَيُقْطَعُ كَالْأَجْنَبِيِّ إلَّا إذَا قَالَ: أَخَذْتُهُ لِأَجْلِ حَقِّي عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَهَهُنَا جِنْسٌ مِنْ الْمَسَائِلِ يُمْكِنُ تَخْرِيجُهَا إلَى أَصْلٍ آخَرَ هُوَ أُولَى بِالتَّخْرِيجِ عَلَيْهِ، وَسَنَذْكُرُهُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدُ.
مِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا لَيْسَ لِلسَّارِقِ فِيهِ حَقُّ الْأَخْذِ، وَلَا تَأْوِيلُ الْأَخْذِ، وَلَا شُبْهَةُ التَّنَاوُلِ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ فَيَسْتَدْعِي جِنَايَةً مَحْضَةً، وَأَخْذُ غَيْرِ الْمَعْصُومِ لَا يَكُونُ جِنَايَةً أَصْلًا، وَمَا فِيهِ تَأْوِيلُ التَّنَاوُلِ، أَوْ شُبْهَةُ التَّنَاوُلِ لَا يَكُونُ جِنَايَةً مَحْضَةً، فَلَا تُنَاسِبُهُ الْعُقُوبَةُ الْمَحْضَةُ، وَلِأَنَّ مَا لَيْسَ بِمَعْصُومٍ يُؤْخَذُ مُجَاهَرَةً لَا مُخَافَتَةً فَيَتَمَكَّنُ الْخَلَلُ فِي رُكْنِ السَّرِقَةِ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ: لَا قَطْعَ فِي سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي لَا يَمْلِكُهَا أَحَدٌ، وَلَا فِي الْمُبَاحِ الْمَمْلُوكِ، وَهُوَ مَالُ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ.
(وَأَمَّا) مَالُ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا قَطْعَ فِيهِ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْطَعَ.
(وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّهُ سَرَقَ مَالًا مَعْصُومًا؛ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ اسْتَفَادَ الْعِصْمَةَ بِالْأَمَانِ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ كَمَالِ الذِّمِّيِّ.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّ هَذَا مَالٌ فِيهِ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ؛ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمَنَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ، وَإِنَّمَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ لِيَقْضِيَ بَعْضَ حَوَائِجِهِ، ثُمَّ يَعُودَ عَنْ قَرِيبٍ، فَكَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ يُورِثُ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ فِي مَالِهِ؛ وَلِهَذَا أَوْرَثَ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ فِي دَمِهِ حَتَّى لَا يُقْتَلَ بِهِ الْمُؤْمِنُ قِصَاصًا؛ وَلِأَنَّهُ كَانَ مُبَاحًا، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ بِعَارِضِ أَمَانٍ هُوَ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ، فَعِنْدَ الزَّوَالِ يَظْهَرُ أَنَّ الْعِصْمَةَ لَمْ تَكُنْ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ، إنَّ كُلَّ عَارِضٍ عَلَى أَصْلٍ، إذَا زَالَ؛ يُلْحَقُ بِالْعَدَمِ مِنْ الْأَصْلِ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَيُجْعَلَ كَأَنَّ الْعِصْمَةَ لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً، بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، قَدْ اسْتَفَادَ الْعِصْمَةَ بِأَمَانٍ مُؤَبَّدٍ، فَكَانَ مَعْصُومَ الدَّمِ، وَالْمَالِ عِصْمَةً مُطْلَقَةً لَيْسَ فِيهَا شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ.
وَبِخِلَافِ ضَمَانِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ لَا تَمْنَعُ وُجُوبَ ضَمَانِ الْمَالِ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ، وَحُقُوقُ الْعِبَادِ لَا تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ، وَكَذَا لَا قَطْعَ عَلَى الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ فِي سَرِقَةِ مَالِ الْمُسْلِمِ، أَوْ الذِّمِّيِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى اعْتِقَادِهِ الْإِبَاحَةَ، وَلِذَا لَمْ يَلْتَزِمْ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُقْطَعُ، وَالْخِلَافُ فِيهِ كَالْخِلَافِ فِي حَدِّ الزِّنَا، وَلَا يُقْطَعُ الْعَادِلُ فِي سَرِقَةِ مَالِ الْبَاغِي؛ لِأَنَّ مَالَهُ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ فِي حَقِّهِ كَنَفْسِهِ، وَلَا الْبَاغِي فِي سَرِقَةِ مَالِ الْعَادِلِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ تَأْوِيلٍ، وَتَأْوِيلُهُ.
وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا، لَكِنَّ التَّأْوِيلَ الْفَاسِدَ عِنْدَ انْضِمَامِ الْمَنَعَةِ إلَيْهِ مُلْحَقٌ بِالتَّأْوِيلِ الصَّحِيحِ فِي مَنْعِ وُجُوبِ الْقَطْعِ؛ وَلِهَذَا أُلْحِقَ بِهِ فِي حَقِّ مَنْعِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ وَالْحَدِّ - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ السَّرِقَةُ مِنْ الْغَرِيمِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ: أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ سَرَقَ مِنْهُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ، وَإِمَّا إنْ كَانَ سَرَقَ مِنْهُ خِلَافَ جِنْسِ حَقِّهِ، فَإِنْ سَرَقَ جِنْسَ حَقِّهِ بِأَنْ سَرَقَ مِنْهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَلَهُ عَلَيْهِ عَشَرَةٌ فَإِنْ كَانَ دَيْنُهُ عَلَيْهِ حَالًا - لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ مُبَاحٌ لَهُ لِأَنَّهُ ظَفَرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ، وَمَنْ لَهُ الْحَقُّ إذَا ظَفَرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ؛ يُبَاحُ لَهُ أَخْذُهُ، وَإِذَا أَخَذَهُ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ.
وَكَذَلِكَ إذَا سَرَقَ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ مِقْدَارِ حَقِّهِ؛ لِأَنَّ