بِالزِّنَا مَعَ فُلَانٍ، فَأَنْكَرَ الرَّجُلُ وَكَذَّبَهَا أَوْ ادَّعَى النِّكَاحَ عَلَى الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ، وَلَوْ أَقَرَّ الرَّجُلُ بِالزِّنَا بِفُلَانَةَ فَادَّعَتْ الْمَرْأَةُ الِاسْتِكْرَاهَ - يُحَدُّ الرَّجُلُ بِالِاتِّفَاقِ، فُرِّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْأَوَّلِ.
(وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْمَرْأَةَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَنْكَرَتْ وُجُودَ الزِّنَا فَلَمْ يَثْبُتْ الزِّنَا مِنْ جَانِبِهَا؛ فَتَعَدَّى إلَى جَانِبِ الْآخَرِ، وَهَهُنَا أَقَرَّتْ بِالزِّنَا لَكِنَّهَا ادَّعَتْ الشُّبْهَةَ لِمَعْنًى يَخُصُّهَا - وَهُوَ كَوْنُهَا مُكْرَهَةً - فَلَا يَتَعَدَّى إلَى جَانِبِ الرَّجُلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّا لَوْ تَيَقَّنَّا بِالْإِكْرَاهِ - يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الرَّجُلِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ تَيَقَّنَّا بِالنِّكَاحِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ - لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الرَّجُلِ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا) رُجُوعُ الشُّهُودِ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُمْ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ فَيُورِثُ شُبْهَةً، وَالْحُدُودُ لَا تُسْتَوْفَى مَعَ الشُّبُهَاتِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِرُجُوعِ الشُّهُودِ فِي بَابِ الْحُدُودِ كُلِّهِمْ أَوْ بَعْضِهِمْ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ، قَبْلَ الْإِمْضَاءِ أَوْ بَعْدَ الْإِمْضَاءِ، بِمَا فِيهِ مِنْ الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ فِي كِتَابِ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَاتِ.
(وَمِنْهَا) بُطْلَانُ أَهْلِيَّةِ شَهَادَتِهِمْ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ بِالْفِسْقِ وَالرِّدَّةِ وَالْجُنُونِ وَالْعَمَى وَالْخَرَسِ وَحَدِّ الْقَذْفِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ.
(وَمِنْهَا) مَوْتُهُمْ فِي حَدِّ الرَّجْمِ خَاصَّةً فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْبِدَايَةَ بِالشُّهُودِ شَرْطُ جَوَازِ الْإِقَامَةِ، وَقَدْ فَاتَ بِالْمَوْتِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُتَصَوَّرُ عَوْدُهُ فَسَقَطَ الْحَدُّ ضَرُورَةً.
(وَأَمَّا) اعْتِرَاضُ مِلْكِ النِّكَاحِ أَوْ مِلْكِ الْيَمِينِ فَهَلْ يُسْقِطُ الْحَدَّ بِأَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أَوْ بِجَارِيَةٍ، ثُمَّ اشْتَرَاهَا؟ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ، رَوَى مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْهُ أَنَّهُ يَسْقُطُ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّ اعْتِرَاضَ الشِّرَاءِ يَسْقُطُ، وَاعْتِرَاضَ النِّكَاحِ لَا يَسْقُطُ.
(وَجْهُ) رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الْبُضْعَ لَا يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلزَّوْجِ بِالنِّكَاحِ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ - كَانَ الْعُقْرُ لَهَا، وَالْعُقْرُ بَدَلُ الْبُضْعِ، وَالْبَدَلُ إنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ كَانَ لَهُ الْمُبْدَلُ، فَلَمْ يَحْصُلْ اسْتِيفَاءُ مَنَافِعِ الْبُضْعِ مِنْ مَحِلٍّ مَمْلُوكٍ لَهُ، فَلَا يُورِثُ شُبْهَةً، وَبُضْعُ الْأَمَةِ يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى بِالشِّرَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ كَانَ الْعُقْرُ لِلْمَوْلَى فَحَصَلَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ مَحِلٍّ مَمْلُوكٍ لَهُ؛ فَيُورِثُ شُبْهَةً فَصَارَ كَالسَّارِقِ إذَا مَلَكَ الْمَسْرُوقَ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ.
(وَجْهُ) رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَصِيرُ مَمْلُوكَةً لِلزَّوْجِ بِالنِّكَاحِ فِي حَقِّ الِاسْتِمْتَاعِ فَحَصَلَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ مَحِلٍّ مَمْلُوكٍ؛ فَيَصِيرُ شُبْهَةً كَالسَّارِقِ إذَا مَلَكَ الْمَسْرُوقَ.
(وَجْهُ) رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْوَطْءَ حَصَلَ زِنًا مَحْضًا؛ لِمُصَادِفَتِهِ مَحِلًّا غَيْرَ مَمْلُوكٍ لَهُ فَحَصَلَ مُوجِبًا لِلْحَدِّ وَالْعَارِضِ - وَهُوَ الْمِلْكُ - لَا يَصْلُحُ مُسْقِطًا؛ لِاقْتِصَارِهِ عَلَى حَالَةِ ثُبُوتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ وَالشِّرَاءِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وُجِدَ لِلْحَالِ فَلَا يَسْتَنِدُ الْمِلْكُ الثَّابِتُ بِهِ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الْوَطْءِ، فَبَقِيَ الْوَطْءُ خَالِيًا عَنْ الْمِلْكِ، فَبَقِيَ زِنًا مَحْضًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ، بِخِلَافِ السَّارِقِ إذَا مَلَكَ الْمَسْرُوقَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ وُجِدَ الْمُسْقِطُ وَهُوَ بُطْلَانُ وِلَايَةِ الْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ هُنَاكَ شَرْطٌ، وَقَدْ خَرَجَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَصْمًا بِمِلْكِ الْمَسْرُوقِ، وَلِذَلِكَ افْتَرَقَا، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.
وَلَوْ غَصَبَ جَارِيَةً فَزَنَى بِهَا فَمَاتَتْ؛ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَقِيمَةَ الْجَارِيَةِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُمَا أَنَّ عَلَيْهِ الْقِيمَةَ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ هَذَا أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ.
(وَجْهُ) رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الضَّمَانَ لَا يَجِبُ إلَّا بَعْدَ هَلَاكِ الْجَارِيَةِ، وَهِيَ بَعْدَ الْهَلَاكِ لَا تَحْتَمِلُ الْمِلْكَ فَلَا يَمْلِكُهَا الْغَاصِبُ بِالضَّمَانِ فَلَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُ الْحَدِّ.
(وَجْهُ) رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الضَّمَانَ لَا يَجِبُ بَعْدَ الْهَلَاكِ وَإِنَّمَا يَجِبُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْحَيَاةِ، وَهِيَ مُحْتَمَلَةٌ لِلْمِلْكِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ وُجُودِ السَّبَبِ؛ وَلِأَنَّ حَيَاةَ الْمَحِلِّ تُشْتَرَطُ؛ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِيهِ مَقْصُودًا بِمُبَادَلَةٍ مَقْصُودَةٍ، وَالْمِلْكُ هَهُنَا يُثْبِتُ ضَرُورَةَ اسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فِي عَقْدِ الْمُبَادَلَةِ، فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ حَيَاةُ الْمَحِلِّ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْمَيِّتِ، وَأَنَّهُ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ وَلَوْ غَصَبَ حُرَّةً فَزَنَى بِهَا فَمَاتَتْ - فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَالدِّيَةُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الضَّمَانِ فِي الْحُرَّةِ لَا يُوجِبُ مِلْكَ الْمَضْمُونِ؛ لِأَنَّ الْمَحِلَّ لَا يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ فَلَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُ الْحَدِّ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا حُكْمُ الْحُدُودِ إذَا اجْتَمَعَتْ، فَالْأَصْلُ فِي أَسْبَابِ الْحُدُودِ إذَا اجْتَمَعَتْ أَنْ يُقَدَّمَ حَقُّ الْعَبْدِ فِي الِاسْتِيفَاءِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ؛ لِحَاجَةِ الْعَبْدِ إلَى الِانْتِفَاعِ بِحَقِّهِ، وَتَعَالَى اللَّهُ - تَعَالَى - عَنْ الْحَاجَاتِ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ لَمْ يُمْكِنْ اسْتِيفَاءُ حُقُوقِ اللَّهِ - تَعَالَى - تَسْقُطُ ضَرُورَةً، وَإِنْ أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهَا فَإِنْ كَانَ فِي إقَامَةِ شَيْءٍ مِنْهَا إسْقَاطُ الْبَوَاقِي - يُقَامُ ذَلِكَ دَرْءًا لِلْبَوَاقِي