لَا يَحْصُلُ إلَّا وَأَنْ تَكُونَ الْإِقَامَةُ عَلَى رَأْسِ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّ الْحُضُورَ يَنْزَجِرُونَ بِأَنْفُسِهِمْ بِالْمُعَايَنَةِ وَالْغُيَّبَ يَنْزَجِرُونَ بِإِخْبَارِ الْحُضُورِ فَيَحْصُلُ الزَّجْرُ لِلْكُلِّ، وَكَذَا فِيهِ مَنْعُ الْجَلَّادِ مِنْ الْمُجَاوَزَةِ عَنْ الْحَدِّ الَّذِي جُعِلَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَاوَزَ لَمَنَعَهُ النَّاسُ عَنْ الْمُجَاوَزَةِ، وَفِيهِ أَيْضًا دَفْعُ التُّهْمَةِ وَالْمَيْلِ فَلَا يَتَّهِمُهُ النَّاسُ أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ عَلَيْهِ بِلَا جُرْمٍ سَبَقَ مِنْهُ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - الْمُوَفِّقُ.

[فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا يُسْقِطُ الْحَدَّ بَعْدَ وُجُوبِهِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْقِطُ الْحَدَّ بَعْدَ وُجُوبِهِ فَالْمُسْقِطُ لَهُ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ وَالسُّكْرِ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي الرُّجُوعِ وَهُوَ الْإِنْكَارُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فِيهِ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي الْإِنْكَارِ يَكُونُ كَاذِبًا فِي الْإِقْرَارِ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فِي الْإِنْكَارِ - يَكُونُ صَادِقًا فِي الْإِقْرَارِ فَيُورِثُ شُبْهَةً فِي ظُهُورِ الْحَدِّ، وَالْحُدُودُ لَا تُسْتَوْفَى مَعَ الشُّبُهَاتِ، وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ مَاعِزًا لَمَّا أَقَرَّ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالزِّنَا؛ لَقَّنَهُ الرُّجُوعَ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: لَعَلَّك قَبَّلْتَهَا، لَعَلَّك مَسَسْتَهَا» .

«وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ أَسَرَقْتِ قُولِي: لَا مَا إخَالُكِ سَرَقْتِ» وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَلْقِينًا لِلرُّجُوعِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمَلًا لِلسُّقُوطِ بِالرُّجُوعِ - مَا كَانَ لِلتَّلْقِينِ مَعْنًى، وَهَذَا هُوَ السُّنَّةُ لِلْإِمَامِ إذَا أَقَرَّ إنْسَانٌ عِنْدَهُ بِشَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ أَنْ يُلَقِّنَهُ الرُّجُوعَ دَرَأَ لِلْحَدِّ، كَمَا فَعَلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ، وَسَوَاءٌ رَجَعَ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ أَوْ بَعْدَ إمْضَاءِ بَعْضِ الْجَلَدَاتِ أَوْ بَعْضِ الرَّجْمِ وَهُوَ حَيٌّ بَعْدُ؛ لِمَا قُلْنَا، ثُمَّ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ قَدْ يَكُونُ نَصًّا، وَقَدْ يَكُونُ دَلَالَةً، بِأَنْ أَخَذَ النَّاسُ فِي رَجْمِهِ؛ فَهَرَبَ وَلَمْ يَرْجِعْ، أَوْ أَخَذَ الْجَلَّادُ فِي الْجَلْدِ؛ فَهَرَبَ وَلَمْ يَرْجِعْ، حَتَّى لَا يُتَّبَعَ وَلَا يُتَعَرَّضَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْهَرَبَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ دَلَالَةُ الرُّجُوعِ وَرُوِيَ أَنَّهُ «لَمَّا هَرَبَ مَاعِزٌ ذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: هَلَّا خَلَّيْتُمْ سَبِيلَهُ» دَلَّ أَنَّ الْهَرَبَ دَلِيلُ الرُّجُوعِ، وَأَنَّ الرُّجُوعَ مُسْقِطٌ لِلْحَدِّ، وَكَمَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا يَصِحُّ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْإِحْصَانِ، حَتَّى لَوْ ثَبَتَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا، وَرَجَعَ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْإِحْصَانِ - يَسْقُطُ عَنْهُ الرَّجْمُ وَيُجْلَدُ؛ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ شَرْطُ صَيْرُورَةِ الزِّنَا عِلَّةً؛ لِوُجُوبِ الرَّجْمِ فَيَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ، كَمَا يَصِحُّ عَنْ الزِّنَا؛ فَيَبْطُلُ الْإِحْصَانُ وَيَبْقَى الزِّنَا، فَيَجِبُ الْجَلْدُ.

وَأَمَّا الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْقَذْفِ فَلَا يُسْقِطُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَدَّ حَقُّ الْعَبْدِ مِنْ وَجْهٍ، وَحَقُّ الْعَبْدِ بَعْدَ مَا ثَبَتَ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِالرُّجُوعِ كَالْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ، وَمِنْهَا تَصْدِيقُ الْمَقْذُوفِ وَالْقَاذِفِ فِي الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَدَّقَهُ فَقَدْ ظَهَرَ صِدْقُهُ فِي الْقَذْفِ، وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُحَدَّ الصَّادِقُ عَلَى الصِّدْقِ؛ وَلِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ إنَّمَا وَجَبَ؛ لِدَفْعِ عَارِ الزِّنَا وَشَيْنِهِ عَنْ الْمَقْذُوفِ، وَلَمَّا صَدَّقَهُ فِي الْقَذْفِ فَقَدْ الْتَزَمَ الْعَارَ بِنَفْسِهِ، فَلَا يَنْدَفِعُ عَنْهُ بِالْحَدِّ فَيَسْقُطُ ضَرُورَةً، وَمِنْهَا تَكْذِيبُ الْمَقْذُوفِ الْمُقِرَّ فِي إقْرَارِهِ بِالْقَذْفِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ: إنَّكَ لَمْ تَقْذِفْنِي بِالزِّنَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَذَّبَهُ فِي الْقَذْفِ فَقَدْ كَذَّبَ نَفْسَهُ فِي الدَّعْوَى، وَالدَّعْوَى شَرْطُ ظُهُورِ هَذَا الْحَدِّ.

(وَمِنْهَا) تَكْذِيبُ الْمَقْذُوفِ حُجَّتَهُ عَلَى الْقَذْفِ - وَهِيَ الْبَيِّنَةُ - بِأَنْ يَقُولَ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالْحَدِّ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ: شُهُودِي شَهِدُوا بِزُورٍ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي التَّكْذِيبِ فَثَبَتَ الشُّبْهَةُ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْحَدِّ مَعَ الشُّبْهَةِ.

(وَمِنْهَا) تَكْذِيبُ الْمَزْنِيِّ بِهَا الْمُقِرَّ بِالزِّنَا قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ بِأَنْ قَالَ رَجُلٌ: زَنَيْتُ بِفُلَانَةَ فَكَذَّبَتْهُ وَأَنْكَرَتْ الزِّنَا، وَقَالَتْ: لَا أَعْرِفُكَ - وَيَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْ الرَّجُلِ، وَهَذَا قَوْلُهُمَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَسْقُطُ، كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الِاخْتِلَافَ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ.

(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ زِنَا الرَّجُلِ قَدْ ظَهَرَ بِإِقْرَارِهِ، وَامْتِنَاعُ الظُّهُورِ فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ لِمَعْنًى يَخُصُّهَا وَهُوَ إنْكَارُهَا؛ فَلَا يَمْنَعُ الظُّهُورَ فِي جَانِبِ الرَّجُلِ، وَلَهُمَا أَنَّ الزِّنَا لَا يَقُومُ إلَّا بِالْفَاعِلِ وَالْمَحِلِّ، فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ فِي جَانِبِهَا - امْتَنَعَ الظُّهُورُ فِي جَانِبِهِ، هَذَا إذَا أَنْكَرَتْ وَلَمْ تَدَّعِي عَلَى الرَّجُلِ حَدَّ الْقَذْفِ، فَإِنْ ادَّعَتْ عَلَى الرَّجُلِ حَدَّ الْقَذْفِ - يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ وَيَسْقُطُ حَدُّ الزِّنَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ حَدَّانِ، هَذَا إذَا كَذَّبَتْهُ وَلَمْ تَدَّعِي النِّكَاحَ.

(فَأَمَّا) إذَا ادَّعَتْ النِّكَاحَ وَالْمَهْرَ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ - يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْ الرَّجُلِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا لِلشُّبْهَةِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ صَادِقَةً فِي دَعْوَى النِّكَاحِ فَتَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهَا، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا الْحَدُّ - تَعَدَّى إلَى جَانِبِ الرَّجُلِ فَسَقَطَ عَنْهُ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَخْلُو عَنْ عُقُوبَةٍ أَوْ غَرَامَةٍ، وَإِنْ كَانَ دَعْوَى النِّكَاحِ مِنْهَا بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الرَّجُلِ - لَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِضَرُورَةِ إقَامَةِ الْحَدِّ وَلَمْ تُوجَدْ، وَعَلَى هَذَا إذَا أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015