دُونَ الْحَدِّ، اعْتَبَرَ حَقَّ الْعَبْدِ فِيهِ لِلِاسْتِحْلَافِ كَالتَّعْزِيرِ وَاعْتَبَرَ حَقَّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلْمَنْعِ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ عِنْدَ النُّكُولِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ، وَمِثْلُ هَذَا جَائِزٌ كَحَدِّ السَّرِقَةِ أَنَّهُ يَجْرِي فِيهِ الِاسْتِحْلَافُ، وَلَا يَقْضِي عِنْدَ النُّكُولِ بِالْحَدِّ، وَلَكِنْ يَقْضِي بِالْمَالِ، وَكَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ - فِي الْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ وَالنَّفْسِ: إنَّهُ يَحْلِفُ، وَعِنْدَ النُّكُولِ لَا يَقْضِي بِالْقِصَاصِ بَلْ بِالدِّيَةِ عَلَى مَا عُرِفَ، وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي: لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ فِي الْمِصْرِ عَلَى قَذْفِهِ - يُحْبَسُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْقَذْفُ إلَى قِيَامِ الْحَاكِمِ مِنْ مَجْلِسِهِ.
وَالْمُرَادُ مِنْ الْحَبْسِ الْمُلَازَمَةُ أَيْ يُقَالُ لِلْمُدَّعِي: لَازِمْهُ إلَى هَذَا الْوَقْتِ، فَإِنْ أَحْضَرَ الْبَيِّنَةَ فِيهِ وَإِلَّا خُلِّيَ سَبِيلُهُ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ كَفِيلٌ بِنَفْسِهِ، هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْكَفِيلُ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَفَالَةَ فِي الْحُدُودِ غَيْرُ جَائِزَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ قَالَ فِي الْكِتَابِ: وَلَا كَفَالَةَ فِي حَدٍّ وَلَا قِصَاصٍ، وَعِنْدَهُمَا يُكْفَلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ مَعْنَاهُ لَا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ جَبْرًا، فَأَمَّا إذَا بَذَلَ مِنْ نَفْسِهِ وَأَعْطَى الْكَفِيلَ - فَهُوَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَظَاهِرُ إطْلَاقِ الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ النَّفْيِ إذَا دَخَلَتْ عَلَى الْأَفْعَالِ الشَّرْعِيَّةِ؛ يُرَادُ بِهَا نَفْيُ الْجَوَازِ مِنْ الْأَصْلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهُورٍ وَلَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» وَنَحْوِ ذَلِكَ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْحَبْسَ جَائِزٌ فِي الْحُدُودِ، فَالْكَفَالَةُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْوَثِيقَةِ فِي الْحَبْسِ أَبْلَغُ مِنْهُ فِي الْكَفَالَةِ، فَلَمَّا جَازَ الْحَبْسُ فَالْكَفَالَةُ أَحَقُّ بِالْجَوَازِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْكَفَالَةَ شُرِعَتْ لِلِاسْتِيثَاقِ، وَالْحُدُودُ مَبْنَاهَا عَلَى الدَّرْءِ وَالْإِسْقَاطِ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» .
فَلَا يُنَاسِبُهَا الِاسْتِيثَاقُ بِالْكَفَالَةِ، بِخِلَافِ الْحَبْسِ فَإِنَّ الْحَبْسَ لِلتُّهْمَةِ مَشْرُوعٌ، رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَبَسَ رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ» وَقَدْ ثَبَتَتْ التُّهْمَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ: لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ فِي الْمِصْرِ، فَجَازَ الْحَبْسُ فَإِذَا أَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدَيْنِ لَا يَعْرِفُهُمَا الْقَاضِي - أَيْ لَمْ تَظْهَرْ عَدَالَتُهُمَا بَعْدَ الْحَبْسِ - فَلَا خِلَافَ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ كَفِيلٌ، وَإِنْ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا عَدْلًا حُبِسَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعِنْدَهُمَا لَا يُحْبَسُ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ كَفِيلٌ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْحَقَّ لَا يَظْهَرُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ عَدْلًا، فَالْحَبْسُ مِنْ أَيْنَ بِخِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ؟ فَإِنَّ سَبَبَ ظُهُورِ الْحَقِّ قَدْ وُجِدَ وَهُوَ كَمَالُ عَدَدِ الْحُجَّةِ، إلَّا أَنَّ تَوَقُّفَ الظُّهُورِ لِتَوَقُّفِ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ فَثَبَتَتْ الشُّبْهَةُ؛ فَيُحْبَسُ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ قَوْلَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ لَا يُوجِبُ الْحَقَّ فَإِنَّهُ يُوجِبُ التُّهْمَةَ، وَحَبْسُ الْمُتَّهَمِ جَائِزٌ، وَلَوْ قَالَ الْمُدَّعِي: لَا بَيِّنَةَ لِي أَوْ بَيِّنَتِي غَائِبَةٌ أَوْ خَارِجُ الْمِصْرِ - لَا يُحْبَسُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ، فَإِنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ لِلْمَقْذُوفِ عَلَى الْقَذْفِ، أَوْ أَقَرَّ الْقَاذِفُ بِهِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقُولُ لَهُ: أَقِمْ الْبَيِّنَةَ عَلَى صِحَّةِ قَذْفِكَ.
فَإِنْ أَقَامَ أَرْبَعَةً مِنْ الشُّهُودِ عَلَى مُعَايَنَةِ الزِّنَا مِنْ الْمَقْذُوفِ أَوْ عَلَى إقْرَارِهِ بِالزِّنَا - سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الْقَاذِفِ، وَيُقَامُ حَدُّ الزِّنَا عَلَى الْمَقْذُوفِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ - يُقِيمُ حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى الْقَاذِفِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] وَإِنْ طَلَبَ التَّأْجِيلَ مِنْ الْقَاضِي، وَقَالَ: شُهُودِي غُيَّبٌ، أَوْ خَارِجُ الْمِصْرِ - لَمْ يُؤَجِّلْهُ، وَلَوْ قَالَ: شُهُودِي فِي الْمِصْرِ أَجَّلَهُ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ، وَلَازَمَهُ الْمَقْذُوفُ، وَيُقَالُ لَهُ: ابْعَثْ أَحَدًا إلَى شُهُودِكَ فَأَحْضِرْهُمْ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ كَفِيلٌ بِنَفْسِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعِنْدَهُمَا يُؤَجَّلُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْكَفِيلُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي إخْبَارِهِ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةٌ فِي الْمِصْرِ، وَرُبَّمَا لَا يُمْكِنُهُ الْإِحْضَارُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّأْخِيرِ إلَى الْمَجْلِسِ الثَّانِي وَأَخْذِ الْكَفِيلِ؛ لِئَلَّا يُفَوِّتَ حَقَّهُ عَسَى، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ فِي التَّأْجِيلِ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ الثَّانِي مَنْعًا مِنْ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ بَعْدَ ظُهُورِهِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، بِخِلَافِ التَّأْخِيرِ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَا يُعَدُّ تَأْجِيلًا وَلَا مَنْعًا مِنْ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ بَعْدَ ظُهُورِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إذَا ادَّعَى أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً حَاضِرَةً فِي الْمِصْرِ وَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا يَبْعَثُهُ إلَى الشُّهُودِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَبْعَثُ مَعَهُ مِنْ الشُّرَطِ مَنْ يَحْفَظْهُ وَلَا يَتْرُكْهُ حَتَّى يُقِرَّ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ - ضُرِبَ الْحَدُّ، وَلَوْ ضُرِبَ بَعْضَ الْحَدِّ ثُمَّ أَقَامَ الْقَاذِفُ الْبَيِّنَةَ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ - قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ وَسَقَطَتْ بَيِّنَةُ الْجَلَدَاتِ، وَلَا تَبْطُلُ شَهَادَتُهُ وَيُقَامُ حَدُّ الزِّنَا عَلَى الْمَقْذُوفِ، كَمَا لَوْ أَقَامَهَا قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ الْحَدَّ أَصْلًا وَلَوْ ضُرِبَ الْحَدَّ بِتَمَامِهِ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى زِنَا الْمَقْذُوفِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ وَيَظْهَرُ أَثَرُ الْقَبُولِ فِي جَوَازِ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ، وَأَنْ لَا يَصِيرَ مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ