وَلَا يَسْأَلُهُ عَنْ الزَّمَانِ؛ لِأَنَّ السُّؤَالَ عَنْ الزَّمَانِ لِمَكَانِ احْتِمَالِ التَّقَادُمِ، وَالتَّقَادُمُ فِي الْإِقْرَارِ، وَإِنَّمَا يَقْدَحُ فِي الشَّهَادَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الزَّمَانِ أَيْضًا؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ زَنَى فِي حَالِ الصِّغَرِ، فَإِذَا بَيَّنَ ذَلِكَ كُلَّهُ - سَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ أَهُوَ مُحْصَنٌ أَمْ لَا؟ لِأَنَّ حُكْمَ الزِّنَا يَخْتَلِفُ بِالْإِحْصَانِ وَعَدَمِهِ، فَإِنْ قَالَ: أَنَا مُحْصَنٌ - سَأَلَهُ عَنْ مَاهِيَّةِ الْإِحْصَانِ أَنَّهُ مَا هُوَ؟ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ اجْتِمَاعِ شَرَائِطِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا كُلُّ أَحَدٍ فَإِذَا بَيَّنَ رَجَمَهُ.

وَأَمَّا عِلْمُ الْقَاضِي فَلَا يَظْهَرُ بِهِ حَدُّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالسُّكْرِ وَالسَّرِقَةِ؛ حَتَّى لَا يَقْضِيَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِعِلْمِهِ، لَكِنَّهُ يَقْضِي بِالْمَالِ فِي السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِعِلْمِهِ فِي الْأَمْوَالِ، سَوَاءٌ عَلِمَ بِذَلِكَ قَبْلَ زَمَانِ الْقَضَاءِ وَمَكَانِهِ أَوْ بَعْدَهُمَا بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَسَوَاءٌ عَلِمَ بِذَلِكَ مُعَايَنَةً بِأَنْ رَأَى إنْسَانًا يَزْنِي وَيَشْرَبُ وَيَسْرِقُ، أَوْ بِسَمَاعِ الْإِقْرَارِ بِهِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِهِ الَّذِي يَقْضِي فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ، فَإِنْ كَانَ إقْرَارُهُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ - لَزِمَهُ مُوجِبُ إقْرَارِهِ، إذْ لَوْ لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ - لَاحْتَاجَ الْقَاضِي إلَى أَنْ يَكُونَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ عَلَى الْإِقْرَارِ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ، وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ بِخِلَافِهِ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.

وَيَظْهَرُ بِهِ حَدُّ الْقَذْفِ فِي زَمَانِ الْقَضَاءِ وَمَكَانِهِ كَالْقِصَاصِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ وَالْأَمْوَالِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي ظُهُورِ ذَلِكَ بِعِلْمِهِ فِي غَيْرِ زَمَانِ الْقَضَاءِ وَمَكَانِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا جُمْلَةَ ذَلِكَ بِدَلَائِلِهِ فِي كِتَابِ آدَابِ الْقَاضِي، وَلَا يَظْهَرُ حَدُّ السَّرِقَةِ بِالنُّكُولِ، لَكِنَّهُ يَقْضِي بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ النُّكُولَ إمَّا بَدَلٌ، وَإِمَّا إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ، وَالْحَدُّ لَا يَحْتَمِلُ الْبَدَلَ وَلَا يَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ، وَالْمَالُ يَحْتَمِلُ الْبَدَلَ وَالثُّبُوتَ بِالشُّبْهَةِ.

وَأَمَّا الْخُصُومَةُ فَهَلْ هِيَ شَرْطُ ثُبُوتِ الْحَدِّ بِالشَّهَادَةِ وَالْإِقْرَارِ؟ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي حَدِّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ؛ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَالْخُصُومَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهَا تُقَامُ حِسْبَةً لِلَّهِ - تَعَالَى - فَلَا يَتَوَقَّفُ ظُهُورُهَا عَلَى دَعْوَى الْعَبْدِ.

وَلَا خِلَافَ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ أَنَّ الْخُصُومَةَ فِيهَا شَرْطُ الظُّهُورِ بِالشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ وَإِنْ كَانَ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى خَالِصًا، لَكِنْ هَذَا الْحَقُّ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ كَوْنِ الْمَسْرُوقِ مِلْكًا لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَلَا يَظْهَرُ ذَلِكَ إلَّا بِالْخُصُومَةِ، وَفِي كَوْنِهَا شَرْطَ الظُّهُورِ بِالْإِقْرَارِ خِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ، وَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي أَنَّهَا شَرْطُ الظُّهُورِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْقَذْفِ وَالْإِقْرَارِ بِهِ، أَمَّا عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الدَّعْوَى كَمَا فِي سَائِرِ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَعِنْدَنَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُغَلَّبُ فِيهِ، لَكِنْ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَقٌّ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ بِصِيَانَةِ عِرْضِهِ عَنْ الْهَتْكِ، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الدَّعْوَى عَنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْخُصُومَةَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ شَرْطُ كَوْنِ النِّيَّةِ وَالْإِقْرَارِ مُظْهِرَيْنِ فِيهِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا - فِي بَيَانِ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالدَّعْوَى وَالْخُصُومَةِ، وَالثَّانِي - فِي بَيَانِ مَنْ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ وَمَنْ لَا يَمْلِكُهَا، أَمَّا الْأَوَّلُ - فَنَقُولُ - وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى: الْأَفْضَلُ لِلْمَقْذُوفِ أَنْ يَتْرُكَ الْخُصُومَةَ؛ لِأَنَّ فِيهَا إشَاعَةَ الْفَاحِشَةِ وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَى تَرْكِهَا، وَكَذَا الْعَفْوُ عَنْ الْخُصُومَةِ وَالْمُطَالَبَةِ الَّتِي هِيَ حَقُّهَا مِنْ بَابِ الْفَضْلِ وَالْكَرَامَةِ.

وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] ، وَإِذَا رُفِعَ إلَى الْقَاضِي يُسْتَحْسَنُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ قَبْلَ الْإِتْيَانِ بِالْبَيِّنَةِ: أَعْرِضْ عَنْ هَذَا؛ لِأَنَّهُ نَدْبٌ إلَى السَّتْرِ وَالْعَفْوِ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ، فَإِذَا لَمْ يَتْرُكْ الْخُصُومَةَ، وَادَّعَى الْقَذْفَ عَلَى الْقَاذِفِ، فَأَنْكَرَ وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي فَأَرَادَ اسْتِحْلَافَهُ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَا قَذَفَهُ، هَلْ يَحْلِفُ؟ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَذَكَرَ فِي آدَابِ الْقَاضِي أَنَّهُ يَحْلِفُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَهُمْ، وَإِذَا نَكِلَ - يَقْضِي عَلَيْهِ بِالْحَدِّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَحْلِفَ، فَإِذَا نَكِلَ يَقْضِي عَلَيْهِ بِالتَّعْزِيرِ لَا بِالْحَدِّ.

وَهَذِهِ الْأَقَاوِيلُ تَرْجِعُ إلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَدُّ الْقَذْفِ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ، فَيَجْرِي فِيهِ الِاسْتِحْلَافُ كَمَا فِي سَائِرِ حُقُوقِ الْعِبَادِ.

وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا فَفِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى - عَزَّ وَجَلَّ - وَحَقُّ الْعَبْدِ فَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ: إنَّهُ يَحْلِفُ وَيَقْضِي بِالْحَدِّ عِنْدَ النُّكُولِ اعْتَبَرَ مَا فِيهِ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ فَأَلْحَقَهُ فِي التَّحْلِيفِ بِالتَّعْزِيرِ، وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ: إنَّهُ لَا يَحْلِفُ أَصْلًا اعْتَبَرَ حَقَّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيهِ؛ لِأَنَّهُ الْمُغَلَّبُ، فَأَلْحَقَهُ بِسَائِرِ حُقُوقِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْخَالِصَةِ، وَالْجَامِعُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الِاسْتِحْلَافِ هُوَ النُّكُولُ، وَأَنَّهُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ بَدَلٌ، وَالْحَدُّ لَا يَحْتَمِلُ الْبَدَلَ، وَعَلَى أَصْلِهِمَا إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحِ إقْرَارٍ، بَلْ هُوَ إقْرَارٌ بِطَرِيقِ السُّكُوتِ، فَكَانَ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ، وَالْحَدُّ لَا يَثْبُتُ بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ، وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ.

إنَّهُ يَحْلِفَ وَيَقْضِي عَلَيْهِ بِالتَّعْزِيرِ عِنْدَ النُّكُولِ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015