فَكَانَ وُجُودُهُ وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِاللَّحْمِ يُؤْكَلُ الْكُلُّ؛ لِأَنَّ الْعُضْوَ الْمُتَعَلِّقَ بِاللَّحْمِ مِنْ جُمْلَةِ الْحَيَوَانِ، وَذَكَاةُ الْحَيَوَانِ تَكُونُ لِمَا اتَّصَلَ بِهِ.
وَلَوْ ضَرَبَ صَيْدًا بِسَيْفٍ فَقَطَعَهُ نِصْفَيْنِ يُؤْكَلُ النِّصْفَانِ عِنْدَنَا جَمِيعًا، وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ قَطْعَ الْأَوْدَاجِ لِكَوْنِهَا مُتَّصِلَةً مِنْ الْقَلْبِ بِالدِّمَاغِ فَأَشْبَهَ الذَّبْحَ فَيُؤْكَلُ الْكُلُّ، وَإِنْ قَطَعَ أَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ فَمَاتَ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَلِي الْعَجُزَ لَا يُؤْكَلُ الْمُبَانُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُؤْكَلُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْجَرْحَ فِي الصَّيْدِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَهُوَ ذَكَاةٌ اضْطِرَارِيَّةٌ وَإِنَّهَا سَبَبُ الْحِلِّ كَالذَّبْحِ.
(وَلَنَا) قَوْلُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا أُبِينَ مِنْ الْحَيِّ فَهُوَ مَيِّتٌ» وَالْمَقْطُوعُ مُبَانٌ مِنْ الْحَيِّ فَيَكُونُ مَيِّتًا وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الْجَرْحَ الَّذِي اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ ذَكَاةٌ فِي الصَّيْدِ فَنَعَمْ لَكِنَّ حَالَ فَوَاتِ الْحَيَاةِ عَنْ الْمَحَلِّ وَعِنْدَ الْإِبَانَةِ الْمَحَلُّ كَانَ حَيًّا فَلَمْ يَقَعْ الْفِعْلُ ذَكَاةً لَهُ وَعِنْدَمَا صَارَ ذَكَاةً كَانَ الْجُزْءُ مُنْفَصِلًا وَحُكْمُ الذَّكَاةِ لَا يَلْحَقُ الْجُزْءَ الْمُنْفَصِلَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ يُؤْكَلُ الْكُلُّ لِوُجُودِ قَطْعِ الْأَوْدَاجِ فَكَانَ الْفِعْلُ حَالَ وُجُودِهِ ذَكَاةً حَقِيقَةً فَيَحِلُّ بِهِ الْكُلُّ وَإِنْ ضَرَبَ رَأْسَ صَيْدٍ فَأَبَانَهُ نِصْفَيْنِ طُولًا أَوْ عَرْضًا يُؤْكَلُ كُلُّهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: لَا يُؤْكَلُ النِّصْفُ الْبَائِنُ وَيُؤْكَلُ مَا بَقِيَ مِنْ الصَّيْدِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَوْدَاجَ مُتَّصِلَةٌ بِالدِّمَاغِ فَتَصِيرُ مَقْطُوعَةً بِقَطْعِ الرَّأْسِ وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ عَلَى هَذَا ثُمَّ ظَنَّ أَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا فِيمَا يَلِي الْبَدَنَ مِنْ الرَّأْسِ وَإِنْ كَانَ الْمُبَانُ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ فَكَذَلِكَ يُؤْكَلُ الْكُلُّ لِأَنَّهُ إذَا قَطَعَ الْعُرُوقَ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ذَبْحًا بَلْ كَانَ جَرْحًا وَأَنَّهُ لَا يُبِيحُ الْمُبَانَ لِمَا ذَكَرْنَا.
(وَأَمَّا) شَرَائِطُ رُكْنِ الذَّكَاةِ فَأَنْوَاعُ بَعْضُهَا يَعُمُّ نَوْعَيْ الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَالِاضْطِرَارِيَّة وَبَعْضُهَا يَخُصُّ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ أَمَّا الَّذِي يَعُمُّهُمَا فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا فَلَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَةُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَالسَّكْرَانُ الَّذِي لَا يَعْقِلُ لِمَا نَذْكُرُ أَنَّ الْقَصْدَ إلَى التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ شَرْطٌ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْقَصْدُ الصَّحِيحُ مِمَّنْ لَا يَعْقِلُ فَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ يَعْقِلُ الذَّبْحَ وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ وَكَذَا السَّكْرَانُ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا فَلَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَةُ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْمَجُوسِيِّ وَالْوَثَنِيِّ وَذَبِيحَةُ الْمُرْتَدِّ أَمَّا ذَبِيحَةُ أَهْلِ الشِّرْكِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ} [المائدة: 3] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] أَيْ لِلنُّصُبِ وَهِيَ الْأَصْنَامُ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا.
وَأَمَّا ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِ فَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «سُنُّوا بِالْمَجُوسِ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ» وَلِأَنَّ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الذَّبِيحَةِ مِنْ شَرَائِطِ الْحِلِّ عِنْدَنَا لِمَا نَذْكُرُ وَلَمْ يُوجَدْ.
وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ؛ فَلِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى الدِّينِ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ فَكَانَ كَالْوَثَنِيِّ الَّذِي لَا يُقَرُّ عَلَى دِينِهِ وَلَوْ كَانَ الْمُرْتَدُّ غُلَامًا مُرَاهِقًا لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تُؤْكَلُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ رِدَّتَهُ صَحِيحَةٌ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ لَا تَصِحُّ، وَتُؤْكَلُ ذَبِيحَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] وَالْمُرَادُ مِنْهُ ذَبَائِحُهُمْ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْصِيصِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ مَعْنًى؛ لِأَنَّ غَيْرَ الذَّبَائِحِ مِنْ أَطْعِمَةِ الْكَفَرَةِ مَأْكُولٌ وَلِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الطَّعَامِ يَقَعُ عَلَى الذَّبَائِحِ كَمَا يَقَعُ عَلَى غَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُتَطَعَّمُ وَالذَّبَائِحُ مِمَّا يُتَطَعَّمُ فَيَدْخُلُ تَحْتَ إطْلَاقِ اسْمِ الطَّعَامِ فَيَحِلُّ لَنَا أَكْلُهَا وَيَسْتَوِي فِيهِ أَهْلُ الْحَرْبِ مِنْهُمْ وَغَيْرُهُمْ لِعُمُومِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَكَذَا يَسْتَوِي فِيهِ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ وَغَيْرُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ عَلَى دِينِ النَّصَارَى إلَّا أَنَّهُمْ نَصَارَى الْعَرَبِ فَيَتَنَاوَلُهُمْ عُمُومُ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ.
وَقَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُ نَصَارَى الْعَرَبِ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَرَأَ قَوْلَهُ عَزَّ شَأْنُهُ {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78] ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: تُؤْكَلُ وَقَرَأَ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] وَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ الَّتِي تَلَاهَا سَيِّدُنَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} [البقرة: 78] أَيْ: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَكَلِمَةُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ إلَّا أَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ غَيْرَهُمْ مِنْ النَّصَارَى فِي بَعْضِ شَرَائِعِهِمْ وَذَا يُخْرِجُهُمْ عَنْ كَوْنِهِمْ نَصَارَى كَسَائِرِ النَّصَارَى.
فَإِنْ انْتَقَلَ الْكِتَابِيُّ إلَى دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْكَفَرَةِ لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ انْتَقَلَ إلَى ذَلِكَ الدِّينِ لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ فَالْكِتَابِيُّ أَوْلَى، وَلَوْ انْتَقَلَ غَيْرُ الْكِتَابِيِّ مِنْ الْكَفَرَةِ إلَى دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ وَالْأَصْلُ أَنَّهُ يُنْظَرُ إلَى حَالِهِ وَدِينِهِ فِي وَقْتِ ذَبِيحَتِهِ دُونَ مَا سِوَاهُ وَهَذَا أَصْلُ أَصْحَابِنَا أَنَّ مَنْ انْتَقَلَ مِنْ مِلَّةِ يُقَرُّ عَلَيْهَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْمِلَّةِ مِنْ الْأَصْلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ