وَالِاسْتِذْلَالُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ وَالِاسْتِخْدَامِ لَا فِي نَفْسِ الْمِلْكِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ أَمَةَ النَّصْرَانِيِّ إذَا أَسْلَمَتْ فَكَاتَبَهَا الْمَوْلَى لَا تُجْبَرُ عَلَى الْبَيْعِ؟ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ الْكِتَابَةِ، وَإِنَّمَا ضُمِنَتْ بِالْقَتْلِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْقَتْلِ ضَمَانُ الدَّمِ وَالنَّفْسِ، وَإِنَّهَا مُتَقَوِّمَةٌ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَذَلِكَ ضَمَانُ الْقَتْلِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَحْفَظْهَا حَتَّى هَلَكَتْ بِسَبَبِ حَادِثٍ، فَقَدْ تَسَبَّبَ لِقَتْلِهَا، وَتَجُوزُ كِتَابَتُهَا كَمَا يَجُوزُ إعْتَاقُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْجِيلِ الْعِتْقِ إلَيْهَا، وَلَا تُشْكِلُ الْكِتَابَةُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ، وَرِقُّ أُمِّ الْوَلَدِ لَا قِيمَةَ لَهُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْمَوْلَى عَلَيْهِ عِوَضًا؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْمُعَاوَضَةِ لَا تَقِفُ عَلَى كَوْنِ الْمُعَوَّضِ مَالًا أَصْلًا فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مُتَقَوِّمًا كَمَا فِي النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ، فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ تُؤَدِّيَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ عَتَقَتْ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، أَمَّا الْعِتْقُ فَلِأَنَّهَا كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ، وَقَدْ مَاتَ مَوْلَاهَا.
وَأَمَّا الْعِتْقُ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ قَدْ بَطَلَتْ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَوَجَّهَتْ إلَيْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: الِاسْتِيلَادُ، وَالْكِتَابَةُ فَإِذَا ثَبَتَ الْعِتْقُ بِأَحَدِهِمَا بَطَلَ حُكْمُ الْآخَرِ، وَكَذَا يَجُوزُ إعْتَاقُهَا عَلَى مَالٍ وَبَيْعُهَا نَفْسَهَا حَتَّى إذَا قَبِلَتْ عَتَقَتْ وَالْمَالُ دَيْنٌ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ عَلَى مَالٍ مِنْ بَابِ تَعْجِيلِ الْحُرِّيَّةِ.
وَأَمَّا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِمَا بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى فَمِنْهَا عِتْقُهَا؛ لِأَنَّ عِتْقَهَا كَانَ مُعَلَّقًا شَرْعًا بِمَوْتِ الْمَوْلَى لِمَا رَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَيُّمَا رَجُلٍ وَلَدَتْ أَمَتُهُ مِنْهُ فَهِيَ مُعْتَقَةٌ عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ» .
وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ حِينَ وَلَدَتْ أُمُّ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ حَقِيقَةُ الْعِتْقِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، فَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ بَعْدَ الْمَوْتِ لَتَعَطَّلَ الْحَدِيثُ، وَلِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْعِتْقِ قَدْ وُجِدَ وَهُوَ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ وَلَمْ يَعْمَلْ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَلَوْ لَمْ يَعْمَلْ بَعْدَ الْمَوْتِ لَبَطَلَ السَّبَبُ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمَوْتُ الْحَقِيقِيُّ وَالْحُكْمِيُّ بِالرِّدَّةِ وَاللُّحُوقِ بِدَارِ الْحَرْبِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ التَّدْبِيرِ.
وَكَذَا الْحَرْبِيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَاسْتُرِقَّ الْحَرْبِيُّ عَتَقَتْ الْجَارِيَةُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُدَبَّرِ، وَكَذَا يَعْتِقُ وَلَدُهَا الَّذِي لَيْسَ مِنْ مَوْلَاهَا إذْ سَرَتْ أُمُومِيَّةُ الْوَلَدِ إلَيْهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ.
وَمِنْهَا أَنَّهَا تَعْتِقُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَلَا تَسْعَى لِلْوَارِثِ وَلَا لِلْغَرِيمِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرَةِ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «أُمُّ الْوَلَدِ لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ وَهِيَ حُرَّةٌ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ» وَهَذَا نَصٌّ، وَرَوَيْنَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ مِنْ غَيْرِ الثُّلُثِ، وَلَا يُبَعْنَ فِي دَيْنٍ وَلَا يُجْعَلْنَ فِي الثُّلُثِ» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «وَلَا يُجْعَلْنَ فِي الثُّلُثِ وَلَا يُسْتَسْعَيْنَ فِي دَيْنٍ» ، وَفِي بَعْضِهَا «أَمَرَ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ مِنْ غَيْرِ الثُّلُثِ وَلَا يُبَعْنَ فِي دَيْنٍ» وَلِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ حُرِّيَّةِ أُمِّ الْوَلَدِ هُوَ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ وَالنَّسَبُ لَا تُجَامِعُهُ السِّعَايَةُ، كَذَا حُرِّيَّةُ الِاسْتِيلَادِ وَمِنْهَا أَنَّ وَلَاءَهَا لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مِنْهُ لِمَا بَيَّنَّا.
وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَظْهَرُ بِهِ الِاسْتِيلَادُ.
فَظُهُورُهُ بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى، ثُمَّ إنْ أَقَرَّ بِهِ فِي حَالِ الصِّحَّةِ أَنَّ هَذِهِ الْجَارِيَةَ قَدْ وَلَدَتْ مِنْهُ فَقَدْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدِهِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ لَا تُهْمَةَ فِيهِ فَيَصِحُّ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَلِهَذَا لَوْ أَعْتَقَهَا فِي الصِّحَّةِ يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ بِهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، فَإِنْ كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ صَارَتْ أُمَّ وَلَدِهِ أَيْضًا وَتَعْتِقُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ إذَا مَاتَ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْوَلَدِ مَعَهَا دَلِيلُ الِاسْتِيلَادِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ، وَلِأَنَّ التَّسَبُّبَ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ، وَتَصَرُّفُ الْمَرِيضِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ حَاجَةٌ أَصْلِيَّةٌ نَافِذٌ كَشِرَاءِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ عَتَقَتْ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي إقْرَارِهِ فِي حَقِّ سَائِرِ الْوَرَثَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يَنْفِي التُّهْمَةَ وَهُوَ الْوَلَدُ وَكَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ لَا تَحْتَاجُ إلَى التَّسَبُّبِ فَيَصِيرَ قَوْلُهُ: هَذِهِ أُمُّ وَلَدِي كَقَوْلِهِ هَذِهِ حُرَّةٌ بَعْدَ مَوْتِي فَتَعْتِقُ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ الثُّلُثِ.
(كِتَابُ الْمُكَاتَبِ) :
الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ جَوَازِ الْمُكَاتَبَةِ، وَفِي بَيَانِ رُكْنِ الْمُكَاتَبَةِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ