الْحُرِّيَّةِ أَعْنِي الْعَقْدَ سَبَبُ ثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ ثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ أَصْلًا وَهَذَا حَقُّهُ وَلَهُ فِيهِ حَقٌّ، وَالْبَيَانُ طَرِيقُ اسْتِيفَاءِ هَذَا الْحَقِّ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِسَبِيلٍ مِنْ الْخُصُومَةِ وَالْمُطَالَبَةِ بِالْبَيَانِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْبَيَانُ إلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْإِجْمَالَ مِنْهُ فَكَانَ الْبَيَانُ إلَيْهِ، كَمَا فِي بَيَانِ الْمُجْمَلِ وَالْمُشْتَرَكِ فِي النُّصُوصِ وَكَمَنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ مَجْهُولٍ أَوْ بَاعَ قَفِيزًا مِنْ صُبْرَةٍ كَانَ الْبَيَانُ إلَيْهِ.

كَذَا هَذَا.

الْبَيَانُ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: نَصٌّ وَدَلَالَةٌ وَضَرُورَةٌ.

أَمَّا النَّصُّ: فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ الْمَوْلَى لِأَحَدِهِمَا عَيْنًا: إيَّاكَ عَنَيْتُ أَوْ نَوَيْتُ أَوْ أَرَدْتُ بِذَلِكَ اللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرْت، أَوْ اخْتَرْتُ أَنْ تَكُونَ حُرًّا بِاللَّفْظِ الَّذِي قُلْتُ، أَوْ أَنْتَ حُرٌّ بِذَلِكَ اللَّفْظِ الَّذِي قُلْتُ أَوْ بِذَلِكَ الْإِعْتَاقِ، أَوْ أَعْتَقْتُكَ بِالْعِتْقِ السَّابِقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ، فَلَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ أَوْ أَعْتَقْتُكَ بِالْعِتْقِ السَّابِقِ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ عِتْقًا مُسْتَأْنَفًا، عَتَقَا جَمِيعًا، وَهَذَا بِالْإِعْتَاقِ الْمُسْتَأْنَفِ وَذَاكَ بِاللَّفْظِ السَّابِقِ؛ لِأَنَّ إنْشَاءَ الْعِتْقِ فِي أَحَدِهِمَا قَبْلَ الِاخْتِيَارِ اخْتِيَارُ الْعِتْقِ فِي الْآخَرِ دَلَالَةً؛ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ قَالَ: عَنَيْتُ بِهِ الَّذِي لَزِمَنِي بِقَوْلِي: أَحَدُكُمَا حُرٌّ يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ، وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: أَعْتَقْتُكَ عَلَى اخْتِيَارِ الْعِتْقِ، أَيْ اخْتَرْتُ عِتْقَكَ.

وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَهِيَ أَنْ يُخْرِجَ الْمَوْلَى أَحَدَهُمَا عَنْ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ أَوْ بِالْهِبَةِ أَوْ بِالصَّدَقَةِ أَوْ بِإِنْشَاءِ الْعِتْقِ، أَوْ يَرْهَنَ أَحَدَهُمَا أَوْ يُؤَاجِرَ أَوْ يُكَاتِبَ أَوْ يُدَبِّرَ أَوْ يَسْتَوْلِدَ إنْ كَانَتْ أَمَةً؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَنْ خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ فَفَعَلَ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى اخْتِيَارِهِ أَحَدَهُمَا، يُجْعَلُ ذَلِكَ اخْتِيَارًا مِنْهُ دَلَالَةً وَيَقُومُ ذَلِكَ مَقَامَ النَّصِّ كَأَنَّهُ قَالَ: اخْتَرْتُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِبَرِيرَةَ: «إنْ وَطِئَكِ زَوْجُكِ، فَلَا خِيَارَ لَكِ» لِمَا أَنَّ تَمْكِينَهَا زَوْجَهَا مِنْ الْوَطْءِ دَلِيلُ اخْتِيَارِهَا زَوْجَهَا لَا نَفْسَهَا؛ فَصَارَ هَذَا أَصْلًا فِي الْبَابِ، وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ كُلُّهَا فِي أَحَدِهِمَا دَلِيلُ اخْتِيَارِ الْعِتْقِ فِي الْآخَرِ؛ لِأَنَّ مِنْهَا مَا يُنَافِي اخْتِيَارَ الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ فِي الْمُتَصَرَّفِ فِيهِ وَهِيَ التَّصَرُّفَاتُ الْمُزِيلَةُ لِلْمِلْكِ وَمِنْهَا مَا لَا يُنَافِي اخْتِيَارَ الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ فِي الْمُتَصَرَّفِ فِيهِ، لَكِنَّ اخْتِيَارَ الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ فِيهِ يُبْطِلُهُ: وَهُوَ الرَّهْنُ وَالْإِجَارَةُ وَالْكِتَابَةُ وَالتَّدْبِيرُ وَالِاسْتِيلَادُ.

وَالْعَاقِلُ يَقْصِدُ صِحَّةَ تَصَرُّفَاتِهِ وَسَلَامَتِهَا عَنْ الِانْتِقَاضِ وَالْبُطْلَانِ؛ فَكَانَ إقْدَامُهُ عَلَى كِلَا النَّوْعَيْنِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ فِي أَحَدِهِمَا دَلِيلًا عَلَى اخْتِيَارِهِ الْعِتْقَ الْمُبْهَمَ فِي الْآخَرِ، وَاخْتِيَارُهُ الْعِتْقَ الْمُبْهَمَ فِي أَحَدِهِمَا عَيْنًا شَرْطٌ لِنُزُولِ الْعِتْقِ فِيهِ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ.

وَهَذَا التَّخْرِيجُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْعِتْقَ غَيْرُ نَازِلٍ فِي الْعَيْنِ فِيهِمَا.

فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِنُزُولِ الْعِتْقِ فِي أَحَدِهِمَا غَيْرُ عَيْنٍ فَهُوَ أَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لَا صِحَّةِ لَهَا بِدُونِ الْمِلْكِ فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهَا يَكُونُ اخْتِيَارًا لِلْمِلْكِ فِي الْمُتَصَرَّفِ فِيهِ فَتَعَيَّنَ الْآخَرُ؛ فَيُعْتَقُ ضَرُورَةً مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِ الْمَوْلَى نَصًّا وَدَلَالَةً، كَمَا إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الِاخْتِيَارِ أَوْ قُتِلَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَيْعُ بَتًّا أَوْ فِيهِ خِيَارٌ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ التَّنْجِيزِ؛ فَلِأَنَّهُ لَا صِحَّةَ لِلْبَيْعِ إلَّا بِالْمِلْكِ فَكَانَ إقْدَامُهُ عَلَى بَيْعِ أَحَدِهِمَا اخْتِيَارًا إيَّاهُ لِلْمِلْكِ؛ فَيَتَعَيَّنُ الْآخَرُ لِلْعِتْقِ ضَرُورَةً.

وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ التَّعْلِيقِ، أَمَّا خِيَارُ الْمُشْتَرِي فَلَا يَمْنَعُ زَوَالَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ بِلَا خِلَافٍ فِينَا فِي اخْتِيَارِ الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ فِيهِ.

وَأَمَّا اخْتِيَارُ الْبَائِعِ؛ فَلِأَنَّ اخْتِيَارَ الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ يُبْطِلُ شَرْطَ الْخِيَارِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا إذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ مُزِيلًا لِلْمِلْكِ فَيَتَعَيَّنُ الْآخَرُ لِلْعِتْقِ دَلَالَةً أَوْ ضَرُورَةً، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْبِضْ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا بَاعَ أَحَدُهُمَا بَيْعًا فَاسِدًا وَقَبَضَ الْمُشْتَرِي، عَتَقَ الْبَاقِي وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْبِضْ مَاذَا حُكْمُهُ؟ وَهَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْإِمْلَاءِ إذَا وَهَبَ أَحَدَهُمَا وَأَقْبَضَهُ أَوْ تَصَدَّقَ وَأَقْبَضَ، عَتَقَ الْآخَرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَنَا، وَلَمْ يَذْكُرْ حَالَ عَدَمِ الْقَبْضِ، وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَيَتَعَيَّنُ الْعِتْقُ فِي الْآخَرِ سَوَاءٌ قَبَضَ الْمُشْتَرِي أَوْ لَمْ يَقْبِضْ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ وَقَالَ: قَدْ ظَهَرَ الْقَوْلُ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ إذَا سَاوَمَ بِأَحَدِ الْعَبْدَيْنِ، وَقَعَ الْعِتْقُ فِي الْآخَرِ، وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِأَحَدِهِمَا أَوْ سَاوَمَ، عَتَقَ الْآخَرُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسَاوَمَةَ دُونَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَالسَّوْمُ لَمَّا كَانَ بَيَانًا فَالْبَيْعُ أَوْلَى، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ ذِكْرَ الْقَبْضِ فِي الْأَصْلِ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الشَّرْطِ بَلْ وَقَعَ ذِكْرُهُ اتِّفَاقًا أَوْ إشْعَارًا، أَنَّهُ مَعَ الْقَبْضِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الْمُزِيلَةِ لِلْمِلْكِ، وَلَوْ عَلَّقَ عِتْقَ أَحَدِهِمَا عَيْنًا بِشَرْطٍ بِأَنْ قَالَ لَهُ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ، عَتَقَ الْآخَرُ أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ التَّنْجِيزِ؛ فَلِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِمَا سِوَى الْمِلْكِ وَسَبَبِهِ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ؛ فَكَانَ الْإِقْدَامُ عَلَى تَعْلِيقِ عِتْقِهِ اخْتِيَارًا لِلْمِلْكِ فِيهِ فَيَتَعَيَّنُ الْآخَرُ لِلْعِتْقِ ضَرُورَةً

طور بواسطة نورين ميديا © 2015