القوي الكفرية العالمية, نجحوا في ذلك وفي نهاية الأمر, وهو نتيجة لتمكن أولئك من السلطة, أصبح هؤلاء ينادون بأن الوطن والعيش فيه هو في الدرجة الأولى لهم, وصاروا ينظرون إلى أهل تلك الأوطان الإسلامية بأنهم غرباء, وأحيانًا يسمُّونهم عملاء, وبالتالي فمن حقهم أن يضطهدوهم, وهو ما تَمَّ في بعض ديار المسلمين التي أصبح الحكم فيها لغير المسلمين, بل وطرد المسلمين وحوربوا, ونُفِّذَ المخطط المعادي للإسلامي بكل دقة, وكأن الشاعر يندب حظهم حينما قال مفتخرًا:

يا ضيفنا لو جئتنا لوجدتنا ... نحن الضيوف وأنت رب المنزل

وبهذا يتضح أن دعوى الوطنية وكذا القومية وكذا الإنسانية والأخوة والمساواة وحرية الكلمة وتقبل الرأي والرأي الآخر ما هي إلّا لعب سياسة ماكرة ودعوات يراد من ورائها مكاسب سياسية وعقدية. وفي لبنان وفلسطين أقوى الشواهد, واتَّضح أن الدعوة إلى كل النعرات الجاهلية لم ينتفع بها إلّا أعداء الإسلام من اليهود والنصارى ليندمجوا مع المسلمين تحت هذا الاسم؛ لأنَّ الغرض من قيامها في الأساس هو لتحقيق هذا الهدف, فلا يبتلى بها مجتمع إلّا وأصيب بهذا الداء العضال من تراخي القبضة على الدين, ومن تمجيد تراب الوطن وكل ذرة رمل فيه, وأنه وطن مقدَّس دون غيره من بلاد الآخرين, فاخترعت له طقوس وشعارات, واخترعت له أعياد -هي غير الأعياد الإسلامية,' ويتبادل الناس فيها التهاني والتبريكات, وتتعطل كثير من المصالح لانشغال الناس بتلك الأعياد, بينما الإسلام ليس فيه إلّا عيدين عيد الفطر وعيد الأضحى, وعيد صغير هو يوم الجمعة, وطلب أقطابها من الناس أن يقدّموا دماءهم رخيصة من أجل تراب الوطن بدلًا عن الجهاد في سبيل الله تعالى.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد, بل جاءت ثالثة الأثافي وهي كثرة الأماكن المقدّسة, فمرة يدعون إلى تقديس تراب الوطن كله, ومرة يدعون إلى تقديس بعض المدن أو الأماكن التي قد لا يعرف لها ذكر ولا سابقة خير, بل أحيانا يدعون إلى تقديس أماكن عرف عنها الشر, وربما وصل الحال إلى أن يختلط الأمرعلى من لا معرفة له بالأماكن المحترمة من غير الأماكن المحترمة, والمسلمون يعلمون أن الأسلام لا يدعو أحدًا إلى تقديس أيّ مكان في هذه الدنيا, ولا يجد المسلمون بلدًا تحن إليها النفوس وتترقرق عنده الدموع إلّا مكة المكرمة والمدينة النبوية, وليس ذلك لذات المكان أو لترابه, وإنما هو لما شرَّفهما الله به من جعلهما أماكن عبادة فاضلة, ومن بعثة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وبزوغ فجر الإسلام فيهما, ومن ظنَّ أن هذا الاحترام والتقدير إنما هو لترابهما فهو جاهل, فقد كانت المدينة تسمَّى يثرب, وكان فيها ما ذكره العلماء عنها من أنها أرض وباء وحرة جرداء حتى شرفها الله تعالى بنزول نبيه فيها, ودعاؤه لها بالبركة, وأن ينقل حماها إلى الجحفة, ويبارك في مدها وصاعها, وأن يحببها إليهم كحبّهم مكة أو أشد, إلى غير ذلك من أخبار هذا البلد الطيب, وكذلك مكة فإنها وادٍ غير ذي زرع, شرَّفها الله بالكعبة, ولكن في عرف الوطنية ليست العبرة بالصفات وإنما العبرة بذات الأرض, وأحيانًا تقدس

طور بواسطة نورين ميديا © 2015