وأما الذين يفتنون المؤمنين، ويعملون السيئات، فما هم بمفلتين من عذاب الله ولا ناجين. مهما انتفخ باطلهم وانتفش، وبدا عليه الانتصار والفلاح. وعد الله كذلك وسنته في نهاية المطاف: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا؟ ساءَ ما يَحْكُمُونَ!» .. فلا يحسبن مفسد أنه مفلت ولا سابق، ومن يحسب هذا فقد ساء حكمه، وفسد تقديره، واختل تصوره.

فإن الله الذي جعل الابتلاء سنة ليمتحن إيمان المؤمن ويميز بين الصادقين والكاذبين هو الذي جعل أخذ المسيئين سنة لا تتبدل ولا تتخلف ولا تحيد.

وهذا هو الإيقاع الثاني في مطلع السورة، الذي يوازن الإيقاع الأول ويعادله. فإذا كانت الفتنة سنة جارية لامتحان القلوب وتمحيص الصفوف، فخيبة المسيئين وأخذ المفسدين سنة جارية لا بد أن تجيء.

أما الإيقاع الثالث فيتمثل في تطمين الذين يرجون لقاء الله، ووصل قلوبهم به في ثقة وفي يقين: «مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» .. فلتقر القلوب الراجية في لقاء الله ولتطمئن ولتنتظر ما وعدها الله إياه، انتظار الواثق المستيقن ولتتطلع إلى يوم اللقاء في شوق ولكن في يقين.

والتعبير يصور هذه القلوب المتطلعة إلى لقاء الله صورة موحية. صورة الراجي المشتاق، الموصول بما هناك.

ويجيب على التطلع بالتوكيد المريح. ويعقب عليه بالطمأنينة الندية، يدخلها في تلك القلوب. فإن الله يسمع لها، ويعلم تطلعها: «وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».

والإيقاع الرابع يواجه القلوب التي تحتمل تكاليف الإيمان، ومشاق الجهاد، بأنها إنما تجاهد لنفسها ولخيرها ولاستكمال فضائلها، ولإصلاح أمرها وحياتها وإلا فما بالله من حاجة إلى أحد، وإنه لغني عن كل أحد: «وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ، إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ» ..

فإذا كتب الله على المؤمنين الفتنة وكلفهم أن يجاهدوا أنفسهم لتثبت على احتمال المشاق، فإنما ذلك لإصلاحهم، وتكميلهم، وتحقيق الخير لهم في الدنيا والآخرة. والجهاد يصلح من نفس المجاهد وقلبه ويرفع من تصوراته وآفاته ويستعلي به على الشح بالنفس والمال، ويستجيش أفضل ما في كيانه من مزايا واستعدادات. وذلك كله قبل أن يتجاوز به شخصه إلى الجماعة المؤمنة، وما يعود عليها من صلاح حالها، واستقرار الحق بينها، وغلبة الخير فيها على الشر، والصلاح فيها على الفساد.

«وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ».

فلا يقفن أحد في وسط الطريق، وقد مضى في الجهاد شوطا يطلب من الله ثمن جهاده ويمن عليه وعلى دعوته، ويستبطاء المكافأة على ما ناله! فإن الله لا يناله من جهاده شيء. وليس في حاجة إلى جهد بشر ضعيف هزيل: «إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ».وإنما هو فضل من الله أن يعينه في جهاده، وأن يستخلفه في

طور بواسطة نورين ميديا © 2015