ولقد كان فرعون إنما يستمد هيبته وسلطانه من الديانة التي تعبد فيها هذه الآلهة .. بزعم أنه الابن الحبيب لهذه الآلهة! وهي بنوة ليست حسية! فلقد كان الناس يعرفون جيدا أن الفرعون مولود من أب وأم بشريين. إنما كانت بنوة رمزية يستمد منها سلطانه وحاكميته. فإذا عبد موسى وقومه رب العالمين، وتركوا هذه الآلهة التي يعبدها المصريون، فمعنى هذا هو تحطيم الأساس الذي يستمد منه فرعون سلطانه الروحي على شعبه المستخف الذي إنما يطيعه لأنه هو كذلك فاسق عن دين الله الصحيح .. وذلك كما يقول الله سبحانه: «فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ .. إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» فهذا هو التفسير الصحيح للتاريخ .. وما كان فرعون بقادر على أن يستخف قومه فيطيعوه، لو لم يكونوا فاسقين عن دين الله .. فالمؤمن بالله لا يستخفه الطاغوت، ولا يمكن أن يطيع له أمرا، وهو يعلم أن هذا الأمر ليس من شرع الله .. ومن هنا كان يجيء التهديد لنظام حكم فرعون كله بدعوة موسى - عليه السلام - إلى «رب العالمين» وإيمان السحرة بهذا الدين، وإيمان طائفة من قوم موسى كذلك وعبادتهم لرب العالمين .. ومن هنا يجيء التهديد لكل وضع يقوم على ربوبية البشر للبشر من الدعوة إلى ربوبية الله وحده .. أو من شهادة أن لا إله إلا الله .. حين تؤخذ بمدلولها الجدي الذي كان الناس يدخلون به في الإسلام. لا بمدلولها الباهت الهزيل الذي صار لها في هذه الأيام! ومن هنا كذلك استثارت هذه الكلمات فرعون، وأشعرته بالخطر الحقيقي على نظامه كله فانطلق يعلن عزمه الوحشي البشع: «قالَ: سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ»:

وكان بنو إسرائيل قد عانوا من قبل - في إبان مولد موسى - مثل هذا التنكيل الوحشي من فرعون وملئه كما يقول الله تعالى في سورة القصص: «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ، وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً، يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ، يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» ..

إنه الطغيان في كل مكان وفي كل زمان. لا فرق بين وسائله اليوم ووسائله قبل عشرات القرون والأعوام .. !

طور بواسطة نورين ميديا © 2015