للسلطان وتعبيد الناس لأمره ينكر ربوبية رب العالمين .. فهو إذن من الكافرين .. وما يمكن أن يمضي المؤمنون في طريق الدعوة إلى رب العالمين- على ما ينتظرهم فيها من التعذيب والتنكيل- إلا بمثل هذا اليقين بشقيه: أنهم هم المؤمنون، وأن أعداءهم هم الكافرون، وأنهم إنما يحاربونهم على الدين، ولا ينقمون منهم إلا الدين.

ونقف بعد ذلك أمام الروعة الباهرة لانتصار العقيدة على الحياة. وانتصار العزيمة على الألم. وانتصار «الإنسان» على الشيطان. وهو مشهد بالغ الروعة .. نعترف أننا نعجز عن القول فيه. فندعه كما صوره النص القرآني الكريم! ثم نعود إلى سياق القصة القرآني .. حيث يرفع الستار عن مشهد رابع جديد .. إنه مشهد التآمر والتناجي بالإثم والتحريض. بعد الهزيمة والخذلان في معركة الإيمان والطغيان. مشهد الملأ من قوم فرعون يكبر عليهم أن يذهب موسى ناجياً والذين آمنوا معه- وما آمن له إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم. كما جاء في موضع آخر من القرآن- فإذا الملأ يتناجون بالشر والإثم، وهم يهيجون فرعون على موسى ومن معه ويخوفونه عاقبة التهاون في أمرهم من ضياع الهيبة والسلطان باستشراء العقيدة الجديدة، في ربوبية الله للعالمين. فإذا هو هائج مائج، مهدد متوعد، مستعز بالقوة الغاشمة التي بين يديه، وبالسلطان المادي الذي يرتكن إليه! «وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ: أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ؟ قالَ: سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ، وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ، وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ» ..

إن فرعون لم يكن يدعي الألوهية بمعنى أنه هو خالق هذا الكون ومدبره أو أن له سلطانا في عالم الأسباب الكونية. إنما كان يدعي الألوهية على شعبه المستذل! بمعنى أنه هو حاكم هذا الشعب بشريعته وقانونه وأنه بإرادته وأمره تمضي الشئون وتقضى الأمور. وهذا ما يدعيه كل حاكم يحكم بشريعته وقانونه، وتمضي الشؤون وتقضى الأمور بإرادته وأمره - وهذه هي الربوبية بمعناها اللغوي والواقعي - كذلك لم يكن الناس في مصر يعبدون فرعون بمعنى تقديم الشعائر التعبدية له - فقد كانت لهم آلهتهم وكان لفرعون آلهته التي يعبدها كذلك، كما هو ظاهر من قول الملأ له: «ويذرك وآلهتك» وكما يثبت المعروف من تاريخ مصر الفرعونية. إنما هم كانوا يعبدونه بمعنى أنهم خاضعون لما يريده بهم، لا يعصون له أمرا، ولا ينقضون له شرعا .. وهذا هو المعنى اللغوي والواقعي والاصطلاحي للعبادة .. فأيما ناس تلقوا التشريع من بشر وأطاعوه فقد عبدوه، وذلك هو تفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى عن اليهود والنصارى: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ ... الآية» فقد روى عَنْ حُذَيْفَةَ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ؟ قَالَ:" لَا، كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ "

وعَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، قَالَ: قِيلَ لِأَبِي حُذَيْفَةَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: وَلَكِنْ كَانُوا يُحِلُّونَ لَهُمُ الْحَرَامَ فَيَسْتَحِلُّونَهُ، وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمُ الْحَلَالَ فَيُحَرِّمُونَهُ ". (1)

طور بواسطة نورين ميديا © 2015