يا لذة العيش ما [قد] قلت حدثنا ... عوف وبشر عن الشعبي والحسن1
وقال آخر رحل إلى سفيان بن عيينة بمكة:
سيري نجا وقاك الله من عطب ... حتى تلاقي بعد البيت سفيانا
سمح الأنام ومن جلت مناقبه ... لاقى الرجال وحاز العلم أزمانا2
ولولا الرحلة في طلب العلم لوجد طابع فكري محلي في كل مدينة من المدن الإسلامية بسبب العزلة العلمية، لكن الروح الواسعة التي تحلى بها العلماء دفعتهم إلى جوب الآفاق وأخذ العلم من شتى المراكز الفكرية في العالم الإسلامي ولو اهتم المحدثون بتدوين أخبار الرحلات وأوصاف المدن لقدموا معلوات غزيرة كتلك التي نجدها في كتب الرحلات المتأخرة مثل رحلة ابن جبير ورحلة ابن بطوطة. ولكن المحدثين لم يهتموا بغير الحديث الذي كان هدف هذه الرحلات. إن ما حققته هذه الرحلات من امتزاج علم الأمصار يظهر بوضوح في مجاميع الحديث التي دونت خلال القرن الثالث الهجري وقد عملت هذه الرحلات على تقليل أثر العصبية والمنافسة في الحديث بين الأمصار، لذلك نجد أن المنافسة في الفقه بين مدرسة العراق ومدرسة المدينة وظهور العصبية للرأي في النصف الأول من القرن الثاني الهجري يبدو أوضح بكثير من المنافسة بين الأمصار في الحديث، وأحسب أن الرحلة في طلب العلم وما ولدته من امتزاج علم الأمصار المختلفة إضافة إلى عدم احتمال علم الحديث ما احتمله علم الفقه من اتساع في الخلاف بسبب تباين الأفهام والمدارك وتباين الأعراف المحلية وما يستتبعه من اختلاف الحاجيات بين مصر وآخر، لكل ذلك أثر في تقليل العصبية المحلية بين المحدثين، كما أنه لا توجد لدينا مدارس متبلورة في الحديث كما هو الشأن في الفقه، وإن كانت هناك شروط ومقاييس في قبول الرواية أو رفضها والأخذ عن الرجل أو رده، ولكنها شروط فردية تتباين بين محدث وآخر لا مدرسة وأخرى ولا مصر وآخر.