تعود إلى جميعها ما لم يخصه دليل، كقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} [المائدة: 34]، فكان راجعًا إلى كل ما تقدم من القتل والصلب والنفي.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: يرجع إلى أقرب مذكور إلا أن يقم دليل، كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92]، فرجع إلى الدية دون الكفارة.
وكذلك ما اختلفا [102/أ] في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} إلى قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} [المائدة: 54]، فعند أبي حنيفة ترجع التوبة إلى الفسق وحده؛ لأنه أقرب مذكور، وعندنا ترجع إليه وإلى قبول الشهادة اعتبارًا بالعموم، ولا يرجع عندهما إلى الجلد لاختلافهما في التعليل، فعند أبي حنيفة لبعده عن أقرب مذكور، وعند الشافعي لخروجه بدليل، وهو أن حد القذف حق الآدمي فلا يسقط بالتوبة. وكذلك لم يجعل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] عائدًا إلى الكفارة، لأنها من حقوق الله تعالى التي لا تسقط بالعفو، ويكون عائدًا إلى الدية لسقوطها بالعموم.
وأما النوع الثاني وهو الشرط: فالشرط في اللغة هو العلامة، ومنه قوله تعالى: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18]، أي علاماتها، ولهذا يُسمى بالشرطي لتمييزه بعلامته. والشرط في الشرع هو الشيء الذي علق به الحكم لكونه علامة له. فإذا علق الحكم بشرط ثبت الحكم بوجوده وانتفى بعدمه، كقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] الآية، فيتعلق به إثبات ونفي، فيجري مجرى الاستثناء من وجه وإن خالفه من وجه. فوجه اجتماعهما أنه قد يثبت حكمًا وينفي حكمًا. ووجه افتراقهما أن الشرط يثبت الحكم في حال وجوده وينفيه في حال عدمه، والاستثناء يجمع بين النفي والإثبات في حالة واحدة، وربما قيد الحكم فيقوم الدليل على ثبوت الحكم مع وجوده وعدمه فلا يتعلق بالشرط إثبات ولا نفي، ويصرفه الدليل عما وضع له من الحقيقة إلى ما قصد من المجاز، كقوله تعالى: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4]، وحكمها في العدة مع وجود الريبة وعدم الريبة سواء، فإن تجرد الشرط عن دليل حمل على موجبه في النفي والإثبات، وإن علق الشرط بجملة مذكورة عاد إلى جميعها ما لم يخصه دليل كالاستثناء. وجعلها أبو حنيفة [102/ب] عائدًا إلى أقرب مذكور. ودليلنا قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ} إلى قوله: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89]، وهذا يعود إلى جميع ما تقدم، ولا يعود إلى أقرب مذكور من تحرير الرقبة.
وأما الثالث: الغاية فهي على ثبوت الحكم قبلها وانتفائه بعدها، كقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، فكان الفجر حدًا لإباحة الأكل قبله وتحريمه بعده، فتعلق بالغاية إثبات ونفي كالاستثناء