من يحكم باجتهاده إن ضاق وقت الحادثة لا الحاكم ملزم، فلا يجوز أن يلزم ما لا يعتقد لزومه، وصورة التضييق أن يتقدم إليه مسافران في حادثة والقافلة ترحل ويخافان الانقطاع عنها.
فرع آخر
فإذا تقرر فساد التقليد وجب النظر في أصول الشرع ليصل إلى العلم بموجبها، وقال قوم من السلف: لا يجب النظر ويعول على الإلهام، وهذا غلط لقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ} [فصلت: 53]، الآية، وقال أيضًا عز وجل: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]، يعني إما بالنص على حكمه، وإما بالنص على أصله.
فصل
ذكره القاضي الإمام صاحب "الحاوي" رحمه الله تعالى في هذا الموضع يتصل بالأصول والفروع، فأوردته على وجهه حتى لا يشذ منه شيء، قال: إذا ثبت وجوب النظر [في الأصول الشرعية] فالسبب المؤدي إلى معرفة الأصول والعمل بها شيئان: علم الحس والعقل؛ لأن حجج العقل أصل لمعرفة الأصول، إذ لا تعرف صحة الأصول إلا بحجج العقول، ولذلك لم يرد الشرع إلا بما أوجبه العقل أو جوزه، ولم يرد بما حظره العقل [95/ أ] وأبطله، قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]، أي لا يعلمها إلا العاقلون. وقال تعالى: [إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى] [طه: 54] أي العقول. والسبب الثاني في معرفة الأصول الشرعية معرفة لسان العرب، وهو معتبر في حجج السمع خاصة، قال الله تعالى: [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ قومه] [إبراهيم: 4] الآية، وهذا لأنه لا يخاطبهم إلا بما يفهمونه ليكون حجة لهم وعليهم. وقال تعالى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103]، فاحتاج الناظر إلى معرفة لسانهم، وموضوع خطابهم، ليفرق بين الحقيقة والمجاز، وبين الإثبات والنفي، وبين المطلق والمقيد، وبين العام والخاص، وبين المفسر والمجمل، والناسخ والمنسوخ، والفاعل والمفعول، ويعرف صيغة الأوامر والنواهي، فإن قصر عنها لم يصح منه، ولا نعني به أن يكون عالمًا بجميع لغتهم وإعراب كلامهم؛ لأن التشاغل به يقطعه عن عمل ما سواه، وإنما نعني به أن يكون عالمًا بموضوع كلامهم ومشتمل خطابهم، وهو مشهور على أربعة وجوه؛ أمر، ونهي، وخبر، واستخبار.
فأما من لا يقصد النظر المؤدي إلى العلم فالذي يلزمه من معرفة العربية ما يجب أن