لعل ما قيل في الصفحات السابقة يُأجج لدينا مشاعر الرغبة في الانتفاع بالقرآن، ولكن من المتوقع أن هذه المشاعر الحارة سرعان ما تخفت وتبرد بمرور الأيام، ونعود لسابق عهدنا مع القرآن ..
والسبب في ذلك هو تمكن ورسوخ مفهوم التعامل مع القرآن بالطريقة التي ورثناها ومارسناها لسنوات طوال.
فالذي يأكل بيده اليسرى ثلاثين عاما يصبح من الصعب عليه أن يعتاد الأكل بيده اليمنى إلا بعد عظيم جهد.
نعم إذا ذكَّرته بأهمية استعمال يده اليمنى في الطعام والشراب، فمن المتوقع أن يستجيب لك ويأكل أمامك بيده اليمنى، لكنه بعد ذلك يجد نفسه تلقائيًا يعود للأكل بيده اليسرى ..
وهذا هو المتوقع مع القرآن، فالسنوات الطويلة التي قضيناها في التعامل السطحي مع القرآن، جعلتنا نألف ونتعود على هذه الطريقة، لذلك من المتوقع - بعد التذكرة التي تضمنتها هذه الصفحات- أن نجتهد في تفهم القرآن وتدبره والتأثر به عدة أيام، ثم بعد ذلك نعود لسابق عهدنا، وقديم ممارستنا، خاصة أن الشيطان سيجتهد في الحيلولة بيننا وبين تدبر القرآن والتأثر به لعلمه بأن ذلك هو أيسر طريق للربانية.
لذلك لابد من دوام التذكرة، وتعميق الشعور بالاحتياج للقرآن، والتغذية المستمرة لمشاعر الرغبة في التعامل معه كأعظم وسيلة لزيادة الإيمان، وإحداث الشفاء والتغيير بإذن الله ..
وهناك بعض الوسائل التي من شأنها أن تُغذَّى مشاعر الرغبة في الانتفاع الحقيقي بالقرآن، وتُقوى الإيمان به، والثقة فيه.
هذه الوسائل هي:
ثالثًا: القراءة في الكتب التي أبرزت قيمة القرآن الحقيقية.
رابعًا: التعرف على النماذج القرآنية وعلى رأسها محمد صلى الله عليه وسلم، وجيل الصحابة من بعده.
هذا على سبيل الإجمال، وإليك أخي القارئ بعض التفصيل حولها.
أولاً: تزكية الشعور بالأخطار التي تواجه الأمة:
إن الوضع الحالي للأمة لا يخفى على أحد، وما من يوم ينشق فجره إلا وتحمل أخباره مآسٍ جديدة للمسلمين ..
هذا الوضع البائس الذي تعيش فيه أمتنا منذ قرون من شأنه - لو تأمله أي غيور على دينه - أن يؤجج في نفسه الشعور بالخطر على الأمة، والرغبة في عمل أي شيء يُحسَّن من وضعها ويرفع عنه الحرج في مسؤوليته تجاهها.
نعم، الكثير يشعر بالإحباط لقسوة الواقع، ولكن من المفترض أنه بعد قناعتنا بأن مشكلتنا إيمانية، وأن حلها بالعودة إلى القرآن، فإن الأمل في التغيير والإصلاح لا بد وأن يحدونا، ويجعلنا نطمع في نهوض الأمة وعودة مجدها من جديد، ولم لا والحل بين أيدينا، ويسعنا جميعا.
وإن كنا في السابق نشعر بالضيق الشديد، بل والإحباط في بعض الأحيان عندما تشتد المحن بإخواننا المسلمين، وبخاصة عندما يستغيثون بنا فلا نستطيع أن نفعل لهم شيئًا، إلا أننا الآن وبعد أن تأكدنا من المخرج الصحيح، والحل الأكيد الذي يخلصنا من هذا الذل، نريد من كل واحد منا أن يجعل ما يسمعه ويقرؤه من أخبار عن إخوانه المضطهدين في كل مكان، بمثابة الوقود الذي يولد فيه الرغبة الأكيدة لحُسن التعامل مع القرآن، والإكثار من الإقبال عليه ودعوة الناس إليه.
ثانيًا: التعرف على أوصاف القرآن من القرآن:
كلما تعرف المرء على جوانب فاعلية الدواء الذي سيستخدمه فإن ذلك من شأنه أن يزيد ثقته فيه ..
من هنا تبرز أهمية التعرف على القرآن، وأوصافه التي وُصف بها.
فكما يقول الحارث المحاسبي: لقد عظَّم الله عز وجل القرآن وسماه: برهانا، ونورا، ورحمة، وموعظة، ومجيدا، وبصائر، وهدى، وفرقانا، وشفاء لما في الصدور، وذلك ليعظم قدره عند المؤمنين فيقبلوا عليه منبهرين، ومقدرين، ومتدبرين، فينالوا به شفاء قلوبهم.
وأخبرنا كذلك عن قوة تأثيره ليزدادوا ثقة فيه ..
وأخبرنا أنه أحسن من أي حديث ومن كل قصص {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} [يوسف: 3].
ثم أخبرنا عز وجل أنه قد وصل إلى منتهى الحكمة فقال: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر: 5].
وأخبرنا أنه لا يفنى ولا ينفد {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109] (?).