وخلق علم ضروري في قلوب السامعين بالمراد بالكلام المسموع غير مستحيل، بل جائز في العقول جوازا لا إشكال فيه، فإذا أمكن أن يرد كلام من قبل الله، ويعلم مراده به، ويأمر بالنطق به، أو نتيجة لم يكن لمنع تصور التوقيف معنى كما اعتقده من قال بمنع التوقيف من حيث أغفل ما صورناه من خلق العلوم الضرورية بالمراد بالكلام، ولما أغفل هذا، وقدر أن المراد بالكلام إن افتقر إلى بيان بكلام آخر، افتقر الآخر إلى آخر إلى ما لا يتناهى، هرب عن القول بالتوقيف إلى الاصطلاح لأجل هذا.

وأما تصوير وقوعها اصطلاحا فواضح أيضًا لأنا نرى الخرس يفهمون عنا بالإشارة، ونفهم عنهم بها كثيرا من المعاني، فلا نكر في العقول في أن يشير قوم إلى وضع نوع من النعم دلالة على أشخاص حاضرة، والطفل على هذا النحو يتعلم اللغة من أمه وأبيه ولا وجه لمنع هذا مع تصوره، كما ظن المانعون له إذ تخيلوا أن الاصطلاح والتواضع يفتقر إلى تقدم عبارة يدعو بها بعضهم لبعض إلى الاصطلاح، لأنا قد بينا حلول الإشارة محل العبارة.

وإذا كانت هذه هي النكتة عندهم في المنع دعا النظر فيها قوما آخرين إلى المذهب الثالث، وهو كون بعض اللغة توقيفا، لأن بهذا البعض يتم الدعاء إلى الاصطلاح، فلا وجه عند هؤلاء إلى تعميم القول في كونها كلها اصطلاحا، مع عدم الحاجة إلى ذلك في بعضها.

فإذا وضح أن الحق تجويز هذا كله من ناحية العقول، فكيف كان الأمر فيها، هذا لا حظ للعقول فيه، وهو من جملة الغيب الذي إنما يتلقى من أخبار الصادق.

وقد زعم بعضهم أن قوله تعالى: (وعلم أدم الأسماء كلها) الآية يقتضي القطع بأن أصل اللغة توقيف، لإخباره تعالى معلمة من لدنه لآم، وأنكر الحذاق أن يكون في الآية دليل قاطع، ومن الممكن أن تكون الملائكة اصطلحت على لغة، وأنساها الباري سبحانه ثم علم ما أنساه الملائكة لآدم، وأحضر أصحاب الأسماء، وعرضهم على الملائكة لقوله تعالى: (ثم عرضهم على الملائكة)، وهذا الضمير الذي هو الهاء ولميم لا يحسن عوده على التسميات، بل على المسميات، فلما عرضهم على الملائكة: (قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا).

وقد أخبر الباري سبحانه عن كلام وقع من الملائكة عليهم السلام، قبل خلق آدم صلى الله عليه وسلم، إذ قالوا: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) وهذا يقتضي أنه إثبات كلام، ولغة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015