وأما من عكس هذا، فقدر أن الغلط في الأحكام مضر بالمكلفين، ومفسد للعباد، وتأخير البيان فيه إغراء بالغلط، والغلط في الأخبار غير مفسد للعباد، فصح فيه التأخير.
وأما من أجاز في المجمل، ومنع في العموم، فلأن المجمل لا طريق له إلى اعتقاد أمن فيه فيؤمن الغلط عليه، والعموم له طريق إلى اعتقاد التعميم، لكونه مقتضى ظاهر اللفظ، وقد يغلط في اعتقاده، إذا أخر التخصيص.
وأما من عكس هذا المذهب إن ثبت النقل لهذا المذهب، فإنه يرى أن العموم له ظاهر يدل على المعاني، فالخطاب به خطاب بما يفيد، والمجمل لا فائدة [فيه] فضارع الخطاب به خطاب العربي بالزنجية.
وأما الأربع مذاهب التي نقلناها في جواز تأخير البيان الثاني فقد نبهنا على سبب الخلاف في المذهبين المطلقين بالمنع والإجازة، والمذاهب المعتدة توجيهها، والرد عليها مأخوذ مما قررناه.
وأما الوجه الرابع فإن الناس استدلوا على وقوع البيان متأخرا في الشريعة بقوله تعالى: (ثم إن علينا بيانه) و"ثم" للمهل والتراخي.
وبقوله تعالى: (ثم فصلت آياته) و"ثم" للمهملة كما قررناه.
وقد قالت الملائكة: (إنا مهلكوا أهل هذه القرية) ولم يستثنوا لوطا، حتى قال إبراهيم عليه السلام: (إن فيها لوطا) فـ (إن فيها لوطا)، نخصص من أهل القرية.
وهكذا [وعد الله] (ص 50) سبحانه نوحا بأنه ينجيه وأهله، ولم يستثن من الأهل ابنه، حتى قال نوح: (إن ابني من أهلي) فأخبر بتخصيصه من الأهل، وهذان بيانان تأخرا.
وقد أمر الله بني إسرائيل بذبح بقرة، والقصد بالأمر بقرة معلومة، وراجع بنو إسرائيل فيها مرة بعد مرة، حتى بين لهم ما عرفوها به، وهذا تأخير البيان، وهكذا قصة موسى عليه السلام مع الخضر، فإنه لم يخبره بجواب ما سأله عنه إلا بعد تراخ، على حسب ما أخبر الله