عقيب الفراغ من التدريس، وبعض حين على حد سواء، فإن كان قبيحا ففي الأمرين، وإن كان حسنا ففي الأمرين.
وأما تعويلهم على أن في ذلك إغراء بالجهالة فإنه باطل، لأنه من حق سامع العموم أن يترقب ورود بيان وتخصيص، لكونه ذلك لا إحالة في تأخيره، فإن بادر فصمم على القطع على الشمول فالذنب له، لا للفظ، ولا يجعل غلط الغالطين إفسادًا للحقائق، ولا قلبا لها عن صورتها.
وأما من قبحه قياسا على قبح تأخير الاستثناء فإنه باطل، لأن العرب لم تنطق بالاستثناء مؤخرا، ونطقت بمشكلات ثم بينتها فيما بعد، فالقبح والحسن هاهنا متلقى من اللسان، وإذا وضح فساد ما تخيله هؤلاء من طرق الإحالة، ثبت جواز الذي قلناه، ويناقضون بتأخير النسخ، فإنه عند المعتزلة وغيرهم ممن اتبعهم على هذا المذهب بيان مدة انقطاع العبادة، والنسخ تخصيص للأزمان، والتخصيص يكون في الأعيان، ولا فرق بين إخراج بعض الأزمان، أو بعض الأعيان، فإذا جاز التأخير في النسخ، جاز ذلك في إخراج بعض الأعيان، وهذا لا يتصور فيه فرق محقق.
وقد دعا توجه هذا الإلزام بعض المبتدعة إلى أن كابر في تأخير النسخ فمنعه، وأوجب اقترانه للخطاب نصا، أو إشعارا، وهذا معلوم على الضرورة، أن الشريعة جاءت بخلافه، وأن النواسخ كلها لم تقارن المنسوخ، ولو قارنته تصريحا لم يكن نسخا، إذ لو كان ذلك لكان كل تقييد، أو اشتراط نسخا، حتى يكون قوله تعلى في الحيض: (حتى يطهرن) نسخا لتحريم وطء الحائض، وقوله تعالى: (إلى الليل) نسخا لقوله: (ثم أتموا الصيام).
والإشعار على الجملة من غير تصريح لا معنى له، لأنا بالعقل نجوز نسخ ما تعبدنا به، فلا ثمرة لقوله: صلوا إلا أن أنسخ ذلك عنكم، لأنا نعلم بالعقول أن الأمر كذلك يكون، وأما من فرق بين الأخبار والأحكام فأجاز في الأحكام دون الأخبار، فإنه قدر أن تأخير البيان [في] الأخبار يطرق سوء الظن إلى صدق الصادق، بخلاف الأحكام فإنها ليست بخبر يدخله الصدق والكذب، ورفع جميعها بالنسخ غير مستنكر، فكيف برفع بعضها.