عليه قوله: "وأرخص في بيع العرية"، والمفهوم من هذا قطعا أن الرخصة بالإخراج لهذا الحكم عن أحكام المزابنة، ولو لم يكن ذلك، لم يكن لتصدير الخطاب بذكر المزابنة معنى.
ونحن وإن لم نعد عطف جملة على جملة لا تعلق بينهما كقول الراوي: نهانا عن سبع، وذكر لبس القسي، والشرب في آنية الذهب، إلى غير ذلك مما ذكره، فإن هذا لما عبر الراوي بلفظ الرخصة عقيب ما صدر الخطاب به اقتضى ذلك الإشارة إلى أن المراد أن هذه رخصة مما تقدم، ولا يسمى الشيء رخصة إلا إذا استثنى من ممنوع، ولا ممنوع هاهنا سوى ما ذكره الراوي، لو كان المراد ما ذكره هذا المتأول لقال: نهى عن الرجوع في الهبة، وأرخص في العرية، ولم يقل: في بيع العرية، وهذا ظاهر لا يمتري فيه لبيب.
وأما التأويل الثاني، وهو أن هذه العبارة إنما حسنت لأجل عدم حقيقة التعاوض لكون الرطب والتمر لمالك واحد، فإن هذا باطل بهذا الذي قدمناه، لأنه لا بيع هاهنا عند هذا المتأول، وكأنه يشير إلى الرخصة في التسمية، وهذا لا يقوله محصل، لأن الراوي لم يشتغل في هذا بنقل اللغة وحقائق التسميات، وإنما اشتغل بنقل الأحكام وبيان الشرائع، فالمنع والترخيص إنما يراد به هاهنا الأحكام (ص 184) والحلال والحرام، لا التسميات. ولا تحسبن العبارة أيضا عمن تجوز في لفظ أو برزت منه استعارة أن يقال: أرخص في كذا. وبالجملة فقد قال: بيع العرية، وهذا تعطيل اللفظ جملا وتفصيلا، فلحق بالمسائل التي قدمناها من ههذ الجهة.
هذا الذي أظنه أراد أبو المعالي بإيراد هذه المسألة هاهنا، من غير ذكر جواب عنها، ولم أقف له فيها على مقال، وقد أبدينا نحن ما يمكن أن يقال. ومن مستهجن التأويل أيضا بما تعلق بخلال هذه المسألة، لأنا ذكرنا أن العربة من الاستثناء عن الأصول، بيع الرطب بالتمر وهو ممنوع عندنا وعند الشافعي، وأجازه أبو حنيفة كيلا بكيل مع ورود الحديث المشهور، وقد سئل عنه صلى الله عليه وسلم فقال: "أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم. قال: فلا إذن"، فاشار عليه السلام إلى أن المماثلة المطلوبة في الربويات المساواة حال الادخار، وذلك إنما يكون بعد الجفاف.
وقد تعسف بعض من ينتصر لأبي حنيفة على هذا الحديث بتأويل لا خفاء بركاكاته، فقال: المراد: فلا إذا، أي لا تبيعوا الرطب إذ جف، فصار تمرا بتمر آخر إلا مثلا بمثل.