به، فأشار إلى كون الحديث مخالفا للعمل، وكان يرى اتباع أهل المدينة، وأنه حجة على غيرهم. وتبعه على هذه الطريقة قوم من أصحابه، فذكر ابن المعذل أن استمرار العمل بخلافه يقتضي بكونه منسوخا، وإلى هذا أشار ابن الماجشون أيضا، وإليه أشار أبو الفرج أيضا في أحد أجوبته عنه، وأكد أبو الفرج هذا الجواب بكون هذا مما تعم البلوى به، ثم مع عمومها استمرار العمل به بخلافه، وما ذاك إلا لنسخه.
وهذه الطريقة التي أشار إليها أبو الفرج هي إحدى الطرق التي توجب عند أبي حنيفة ترك الأخذ بالخبر، لأنه من أصله أن لا يقبل خبر واحد فيما تعم البلوى به، وخيار المجلس مما تعم البلوى به، وإنما ورد بإثباته خبر واحد، فتعلقت المسألة من هذا الجانب بعلم الأصول من وجهين سيذكران إن شاء الله تعالى من زيادة هذا في كتاب الأخبار، أحدهما: مخالفة رأوي الخبر له، ولثاني: ورود خبر واحد فيما تعم البلوى به.
وأما رده لاعتقاد نسخه فطريقة ثالثة فقهية، وقد ذكرنا من أشار إليها من أصحابنا.
وأما الطريقة الرابعة وهي المقصودة في كتابنا هذا فالتنازع في قوله صلى الله عليه وسلم: "البيعان بالخيار ما لم يفترقا"، هل أراد بذلك ما لم يفترقا بالإيجاب والقبول، وإن كانا في مكانهما، أو ما لم يفترقا بالأبدان عن مكانهما؟
فيزعم الشافعي أن المراد ما لم يفترقا عن مكانهما، لا سيما وقد ذكر المكان في بعض طرق الحديث، يشير أبو المعالي إلى أن هذا هو المقصود بالحديث، وأن تأويله على الافتراق بالأقوال مما لا يقبل.
ونحن ننبهك على طريقة المختلفين في هذا، فأما أصحابنا فإنهم يقولون: إذا وجب البيع وانعقد فلا يسمى المتبايعان متبايعين (حقيقة، وإنما الحقيقة أنهما) كانا [متبايعين] على الحقيقة حال تشاغلهما بالتبايع والتساوم، فالحمل على الافتراق بالأقوال تقتضيه المحافظة على التمسك بالحقيقة في لفظة المتبايعين، كما بيناه.
وإن قلنا: إن حمل الافتراق على الافتراق بالأقوال مجاز، فإنما صرنا إليه لئلا يتجاوز بلظ متبايعين، وإذا كان لابد من مجاز في أحد اللفظين فالتجوز بذلك في الأقوال أولى من التجوز في تسمية المتبايعين، وقد ورد الشرع بهذا اللفظ في الأقوال، قال تعالى: (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب)، وقال: (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته)، والمراد الافتراق بالأقوال مذهبا أو طلاقا.