حصل له نوع آخر، وهو زيادته في الأقطار وذهابه في الجهات، ألا ترى أن النطفة تعظم في البطن، والطفل يعظم بعد الوضع شيئا فشيئا، وكذلك النواة المغروسة تعظم شيئا فشيئا، فلابد أن نضيف هذا الفعل إلى قوة أخرى في هذه الأجسام، فنقول: فيها قوة منمية. ثم أيضا نشاهد نوعا آخر من الأفعال لهذه الأجسام، وهو التوليد، فيكون عن الإنسان إنسان مثله، ويكون عن البرة إذا أسلبت برة لمثلها، فلابد أيضا أن تثبت قوة ثالثة تفعل هذا النوع. فيحصل من هذا الجميع الحيوانات والنبات ثلاث قوى: قوة مغذية، وقوة منمية، وقوة مولدة.
وهاهنا تقف معهم وقفة قبل أن نتمادى على سياقة مذهبهم فيما نحن بسبيله فنقول: أحسستم وأحسسنا بهذه التغييرات الثلاثة التي هي التغذية، والتنمية، والتوليد، وبقي علينا وعليكم الكشف عن السبب فيها، فقلنا نحن: لا سبب لها إلا الله سبحانه خلقها، وفعلها كذلك، فالذي خلق أصل الوجود خلق تغير هذا الوجود، وهل هذا إلا كوجود بعد وجوده، والذي فعل الواحد من هذا الوجود هو الذي فعل جميعها، فلا سبب ولا مسبب عندنا، وإنما هنا خلق وخالق، صنع الله الذي أتقن كل شيء، ولو قدرنا أنه أوجد ذلك دفعة واحدة لم يكن بنا حاجة إلى إثبات قوة لكل نوع، فكذلك إذا أحسسنا أنه أوجد شيئا بعد شيء، ومن أعطى زيدا مالا دفعة واحدة، كمن أعطى زيدا درهما بعد درهم، لا تختلف معنى الفعلية في هذا، ولا معنى الفاعل، فكذلك ما نحن فيه.
والخباط الذي يتخيلون هاهنا، من أن هذه أفعال توجد شيئا بعد شيء، على جهة تغير الذوات لا يمكن أن تضاف إلى الباري سبحانه، لأنا لو أضفناها إليه لأدى إلى تغيره (ص 101) [وهذا] واضح البطلان، ولأن الفعل لا يوجب العقل أن يغير ذات الفاعل، ولو سلمنا أنه يوجب ذلك فينا، وأن يحس منا، لم يلزم أن يكون الباري سبحانه في ذلك كنحن، وشتان بين من يفعل بآلة، وبين من يفعل بغير آلة، وشتان بين ذات تقبل التغير، وتخلع عندهم صورة وتلبس أخرى، كما يخلع النبات صورة النباتية، ويكتسي صورة اللحمية إذا غذي به الإنسان، فإن كان يفرط تغير فمن هذه الجهة، وقد اتفقنا على أن الباري سبحانه متقدس عن هذه النقائص، فلا مجال لتصور التغير عليه إذا تغيرت أفعاله، وبالجملة فقف معهم موقف مطالب بالدليل، وقل لهم: ما الدليل على أن كل فاعل إذا تغيرت [أفعاله تغيرت] ذاته؟ فلا يجدون أبدا استدلالا على هذا، ضعيفا ولا قويا، فإن ركنوا إلى المشاهدة والحس، قيل لهم: رد ما غاب في حكم الوجود إلى ما شوهد باطل عيانا، ومن قضى ممن لم ير بشرا أسود أن لا بشر أسود في الدنيا، فقد أخطأ عيانا.