فإن احتج عليه بقوله تعالى: (فكلوا مما أمسكن عليكم)، قال من الصيد ما يحرم على الصائد، وهو دمه، فقد حصل فيه معنى التبعيض، وإن سئل عن قوله: (ويكفر عنكم من سيئاتكم) فعندي أنه قد يجيب عنه بأن من السيئات ما لا يكفر أصلا، وهو الكفر الموافي عليه.
ومن الناس من يجيز زيادتها في الواجب والإثبات، فيحمل قوله تعالى: (مما أمسكن عليكم)، وقوله: (من سيئاتكم) على أنها مزيدة.
وأما قوله تعالى: (وينزل من السماء من جبال فيها من برد) فواضح حمل من الأولى على ابتداء الغاية، والمراد أن ابتداء إنزال الغيث من السماء. وأما الثانية، وهي قوله: (من جبال) فيحتمل وجهين:
- أحدهما: أن تكون لابتداء الغاية أيضا، فيكون ذكر غاية بعد غاية، كما تقول: خرجت من المدينة، من داري إلى البصرة.
- ويحتمل أن تكون للتبعيض، على أن يكون قوله: (من برد) بيانا لجنس الجبال، وأنها من برد، فكأنه يقول: من جبال في السماء هي برد، فيكون الإنزال بعض هذه الجبال
وأما من الثالثة، وهي قوله: (من برد) فتأويلها يستند إلى ما قدمناه، من التردد في قوله (من جبال)، فإن قلنا إن الجبال برد، كانت من الثالثة لبيان الجنس، لأنها أفادت كون الجبال جنسا مخصوصا، وإن قلنا إن قوله (من جبال) ابتداء غاية ثانية، كان قوله: (من برد) للتبعيض، فكأنه يقول: أنزلت من الجبال من البرد.
وقد قيل: قد تكون من بمعنى "علي"، قال الله تعالى: (ونصرناه من القوم) معناه: على القوم، وقد قدمنا نحن من الكلام على إبدال حروف الجر، ما يعلم منه حقيقة هذا، وقد قيل: إنها تكون فعلية، كقولك من يا هذا، إذا أمرته، من المين، وهو الكذب.
وإنما ذكرنا هذا ليتدرب منه على تصور المعاني التي قدمناها.
وأما حرف "عن" فإنه قد تكون اسما، تقول: أخذت من عن الفرس جله، فلو كانت "عن" هاهنا حرفا لما دخل عليه حرف الجر الذي هو "من".
وقد تكون بمعنى "من" وتفارقها في بعض المجاري، لأن "من" تفيد التبعيض