معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر من أنعم الله تعالى عليهم بما شاء من وجوه الإنعام. فقال عز وجل عطفاً عما سبق {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} أي وإن عبدنا يونس بن متى ذا النون لمن جملة من مننّا عليهم بالنبوة والرسالة. {إِذْ أَبَقَ} أي في الوقت الذي هرب من قومه لما لم يؤمنوا به وواعدهم العذاب وتأخر عنهم فاستعجل فهرب من المدينة وهي نينوى (1) من أرض الموصل بالعراق، فوصل الميناء فوجد سفينة مبحرة فركب وكانت حمولتها أكبر من طاقتها فوقفت في عرض البحر لا تتقدم ولا تتأخر فرأى ربّان السفينة أنه لا بد من تقليل الشحنة وإلاّ غرق الجميع، وشح كل راكب بنفسه فاقترعوا (2) فكان يونس من المدحضين أي المغلوبين في القرعة فرموه في البحر فالتقمه حوته، وهو مليم أي فاعل ما يلام عليه من فراره من دعوة قومه إلى الله لما ضاق صدورهم ولم يطق البقاء معهم. وهذا معنى قوله تعالى {إِذْ أَبَقَ (3) إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (4) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} (5) . وقوله تعالى {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ} أي بطن الحوت {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي يوم القيامة بأن يصير بطن الحوت قبراً له أي فلولا أن يونس كان من المسبحين أي المكثرين من الصلاة والذكر والدعاء والتسبيح قبل البلاء لما كان يُلهم قوله لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، ولما كان يستجاب له ولذا قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة"، فإن صوت يونس سمع تحت العرش فعرفه بعض الملائكة فذكروا ذلك لربهم تعالى فأخبرهم أنه عبده يونس، وأنه كان من المكثرين الصلاة والذكر والدعاء قبل البلاء فلذا استجاب الله تعالى ونجاه من الغم، وهو معنى قوله تعالى {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ} أي بوجه الأرض العارية من الشجر وكل ظل وهو كالفرخ المنتوف الريش نضج لحمه من حرارة جوف الحوت وأنبت تعالى عليه شجرة من يقطين أي قرع تظلله بأوراقها