وإنما هو باختيارهم وحرية إرادتهم إذ لو كان جبراً لما استحقوا العذاب عليه. وقوله تعالى {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ} أي أيديهم {إِلَى الْأَذْقَانِ} مشدودة بالأغلال {فَهُمْ مُقْمَحُونَ} أي رافعو رؤوسهم لا يستطيعون خفضها، وهذا تمثيل لحالهم في عدم مدّ أيديهم للإنفاق في الخير، وعدم إذعان رؤوسهم لقبول الحق (1) وقوله {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً} وهذا تمثيل آخر لحالهم وهي أنهم زينت لهم الحياة الدنيا فأصبحوا لا يرون غيرها فهو سد أمامهم مانع لهم من الإيمان وترك الشرك والمعاصي، وصورت لهم الآخرة بصورة باطلة مستحيلة الوقوع فكان ذلك سداً من خلفهم فهم لذلك لا يتوبون ولا يذكرون لعدم خوفهم من عذاب الآخرة وقوله تعالى {فَأَغْشَيْنَاهُمْ} هذا مبالغة في إضلالهم فجعل على أعينهم غشاوة من كره الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبغض ما جاء به من فهم لذلك عمى لا يبصرون. وقوله تعالى {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ (2) أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} هذا إخبار منه تعالى بأن هذه المجموعة من خصوم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أكابر مجرمي مكة استوى فيهم الإنذار النبوي وعدمه فهم لا يؤمنون فكأن الله تعالى يقول لرسوله إن هؤلاء العتاة من خصومك إنذارك لهم لا ينفعهم فأنذر الذين ينفعهم إنذارك ودع من سواهم وهو قوله تعالى {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} أي القرآن {وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} أي خافه فلم يعصه وهو لا يراه، كما لم يعصه عندما يخلو بنفسه ولا يراه غيره فمثل هذا بشره بمغفرة منا لذنوبه وأجر كريم على صالح عمله وهو الجنة دار المتقين وقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى} أي للبعث والجزاء {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} أي أولئك الأموات أيام حياتهم من خير وشر، {وَآثَارَهُمْ} أي ونكتب آثارهم وهو ما استُن به (3) من سننهم الحسنة أو السيئة. {وَكُلَّ شَيْءٍ} أي من أعمال العبادة وغيرها {فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} وهو اللوح المحفوظ، وسنجزي كلاً بما عمل. وفي هذا الخطاب تسلية لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015