أما أجّل المنح والهدايا الإلهية للعباد فتتمثل في شهر رمضان، حيث يتجلى فيه حب الله العجيب لعباده وحرصه على عودتهم إليه، واصطلاحهم معه، على الرغم مما أحدثوه من تفريط في جنبه، وتضييع لأوامره سبحانه، فكل فريضة يؤديها العبد في هذا الشهر كسبعين فريضة فيما سواه .. من صام نهاره وقام ليله غفرت ذنوبه ..
في كل ليلة من لياليه عتقاء يعتقهم الله من النار.
ومع كل ما تقدم فإن الكرم والجود الإلهي لا يتوقف عند هذا فقط، بل يتجلى بصورة عجيبة في ليلة القدر، وهى ليلة - كما نعلم - من ليإلى العشر الأواخر من رمضان .. في هذه الليلة يمنح الله عز وجل من يحييها بالعبادة عطية لا يمكن تصديقها، ألا وهي ثواب يكافئ ثواب من عبد الله ألف شهر بل يزيد {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر3:2].
فماذا تقول بعد ذلك لإلهنا الرحيم الودود الجواد الكريم؟
وماذا ينبغي أن نفعله تجاه هذه المنحة والعطية والفرصة العظيمة للعفو ونيل الرضا والعتق من النار؟!
هل نتركها تمر دون أن نغتنمها ونعود من خلالها إلى الله؟!
أي شخص هذا الذي يظلم نفسه ويحرمها من هذه الفرصة العظيمة!!
من هنا يتضح لنا معنى حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم: «رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له .. » (?).
فمن لم يعمل في رمضان فمتى سيعمل، ومن لم يغفر له في رمضان في ظل أجواء العفو والمغفرة والمنح الإلهية فمتى إذن سيغفر له؟!
أخي الحبيب .. كأني بك أسمع شكواك من نفسك وأنك كلما هممت بفعل الخير أقعدتك تلك النفس، وكلما أردت ترك المعاصي لم يطاوعك هواك.
نعم، تلك هي شكوانا جميعاً، وإن اختلفت صورها، ونحتاج بلا شك إلى روح جديد تبث فينا وتعيننا على جهاد أنفسنا ومقاومة أهوائنا، وتدفعنا لفعل الخيرات.
هذه الروح من الصعب توافرها في سائر أيام العام بسبب الانشغال بالدنيا ومغرياتها، وكذلك بسبب العمل الدؤوب للشياطين في إضلال الناس وإغفالهم عن المهمة التي خُلقوا من أجلها، أما في رمضان فالوضع يختلف: الشياطين مصفدة، والأجواء مشبعة بالقرآن والذكر والفرصة سانحة لعودة الروح، وزيادة الإيمان وقهر الهوى .. فليس لدينا إذن ما نقوله بعد ذلك.
ما علينا إلا أن نحسن استقبال هذا الشهر بالشكل الذي يليق بقدره .. وعلينا دائماً أن نتذكر بأنه .. {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}.
إن كان رمضان فرصة عظيمة لعودة الفرد إلى ربه، وتجديد عهده معه، واستقامته على أمره، فرمضان كذلك فرصة هائلة لتغيير الأمة وإخراجها من المأزق العصيب، والنفق المظلم الذي تسير فيه منذ عدة عقود.
الأمة الإسلامية بحاجة ماسة إلى مشروع تلتف حوله، وتعيد من خلاله بناء عزها ومجدها السليب. وهنا تظهر القيمة العظيمة لشهر رمضان لو أحسنت الأمة التعامل معه.
فإن قلت وما علاقة رمضان بنهضة الأمة: كانت الإجابة - بعون الله وفضله - في الأسطر القادمة.
أرأيت ما نزل بساحتنا؟!
أخي: ماذا كان يجول في خاطرك وأنت تري صور الغارات الصهيونية على رفح وغزة وما خلفته من دمار ودماء وشهداء.
لعلك قد رأيت على شاشة التلفاز: الجرافات وهي تهدم بيوت إخوانك المسلمين في فلسطين.
هل رأيت - مثلما رأينا - تلك المرأة العجوز وهي تجلس خارج بيتها تبكي وتولول وتنظر بأسى إلى حطام بيتها؟!
هل رأيت جنود الأعداء وهم يقومون بإذلال الناس وتفتيشهم والتضييق عليهم؟!