قال ابن الأعرابي والأصمعي وغيرهما: ظن رؤبة أن الكبريت ذهب. وفي العقد: سمع بالكبريت أنه أحمر فظن أنه ذهب. وفي شفاء الغليل: ((وذكره رؤبة في شعره بمعنى الذهب، وخطئ فيه لأن العرب القدماء يخطئون في المعاني دون الألفاظ)) .
قلنا: ولا يخرج ما في اللسان عن ذلك، ولكنه ذكر تفسير الكبريت بالذهب الأحمر في قول لبعضهم، وهو كما لا يخفى يناقض ما اعترض به هؤلاء الأئمة، فلعله حدث بعد نظم البيت وبنى على ما فيه وثوقاً من قائله بالشاعر وليحقق.
(ومن قبيله) قول أبي ذؤيب في وصف الدرة:
فجاء بها ما شئت من لطمية ... يدوم الفرات فوقها ويموج
قالوا: والدرة لا تكون في الماء العذب، وإنما تكون في الماء الملح، كذا في اللسان والعقد والوساطة وما يجوز للشاعر في الضرورة وغيرها وذكر أبو هلال في الصناعتين: أن من يحتج له يرى أن مراده ماء الدرة، وقد وقفت في شرح السيرافي على كتاب سيبويه على تفصيل لذلك بما نصه: ((قال الأصمعي: هذا غلط، وذلك أنه ظن أن اللؤلؤ يخرج من الماء العذب لبعده عن مواضع اللؤلؤ، ومعنى يدوم الفرات فوقها ويموج: أي يسكن مرة ويهيج أخرى بالريح أو زيادة الماء. وذكر بعض أهل اللغة: أن هذا صحيح، وأن الأصمعي هو الغالط، وكيف يذهب هذا على أبي ذؤيب، وهو من هذيل، ومساكنهم جبال مكة المطلة على البحر ومواضع اللؤلؤ، وإنما أراد أبو ذؤيب بالفرات هاهنا ماء اللؤلؤة الذي قد علاها وجعله فراقاً، إذ كان أعلى المياه ما كان فراقاً. وقوله: يدوم الفرات، أي يسكن. ويموج، أي يضطرب. إنما أراد في الناظر مرة، ويضطرب أخرى لصفائها وبريقها، وأن الماء هو ماء اللؤلؤة)) انتهى.
(ومن ذلك) قول لبيد:
ومقام ضيق فرجته ... بمقامي ولساني وجدل
لو يقوم الفيل أو فياله ... زل عن مثل مقامي وزحل
أي لو يقوم الفيل أو صاحبه في هذا المقام لزل وتنحى، ولم يثبت مثل ثباتي، ولا معنى لذكر الفيال هنا، ولكنه لما سمع بعظم خلق الفيل وشدة أيده، ظن أن لسائسه مثل قوته فأخطأ.
(ومنه) قول الآخر:
وألين من مس الرخامات يلتقي ... بمارنه الجادي والعنبر الورد
أنشده السيوطي في المزهر، ونقل عن القالي في أماليه أنه قال: ((غلط الأعرابي لأن العنبر الجيد لا يوصف إلا بالشهبة)) .
قلنا: البيت وارد في الأمالي، وهو من أبيات أولها: (سقى دمنتين ليس لي بهما عهد) وليس في النسخة المطبوعة ما نقل في المزهر من الانتقاد، فلعل القالي ذكره في كتاب آخر له.
(ومنه) قول خالد بن زهير:
وقاسمها بالله جهداً لأنتمُ ... ألذ من السلوى إذا ما نشورها
ظن السلوى العسل فقال نشورها، أي تجنيها من الخلية. قال الزجاج: أخطأ خالد إنما السلوى طائر، وتمحل الفارسي في الرد عليه بأن السلوى كل ما سلاك. وقيل للعسل: سلوى لأنه يسليك بحلاوته، وتأتيه عن غيره مما تلحقك فيه مؤونة الطبخ وغيره من أنواع الصناعة انتهى ولا يخفى ما فيه.
وكما أنهم يخطئون فيما لم يروه ويعهدوه، نراهم يخطئون أيضاً فيما نشأوا عليه، وألفوا رؤيته صباح مساء. ومأتي هؤلاء من تعرضهم لما عرفوا جملته، ولم يحيطوا بتفصيله، لأن المعرفة تتفاوت كثرةً وقلة بحسب ملابسة الأشياء ومجانبتها، فمن كان أشد علاقة بالشيء كان بالضرورة أخبر به وأبصر ممن ضعفت علاقته به، أو قصرت معرفته له على مجرد الألف والمشاهدة. ألا ترى أن قيم الغراس لا يجهل السيف، كما لا يجهله سائر العرب، ولكنا إذا اختبرناه فيه لا نصيب عنده من العلم به وبدقائق أجزائه ومختلف حالاته وصفاته ما نصيبه عند الطباع والصيقل. وكذلك صاحب الظلف أعرف بالشاة والعنز منه بالفرس والبعير، وصاحب الخيل أبصر بها من الملاح أو البزاز، وقس على ذلك سائر الأمور في الكثير الغالب ومن هذه الناحية تطرق الخطأ لرؤبة في قوله يصف فرساً ويذكر قوائمه:
بأربع لا يعتنفن العفقا ... يهوين شتى ويقعن وفقا
فجعله يضبر، أي يجمع يديه ثم يثب فيقع مجموعة يداه، وهو عيب، لأن الجياد من الخيل لا تقع حوافرها معاً، إنما المستحب من الفرس أن يسبح بيديه. ولما قيل له: أخطأت يا أبا الجحاف جعلته مقيداً يضبر، قال: أي بني لا علم لي بالخيل، ولكن أدنني من ذنب البعير أصفه كما يجب، قال الأصمعي: فأدني منه فلم يصنع شيئاً.