ومن طريف ما يروى عن ناهض بن ثومة، وكان بدوياً جافاً، أنه نزل حلب وشهد في ضاحيتها عرساً، فلما رأى احتشاد الناس ظنهم في أحد العيدين، ثم تذكر أنه خرج من البادية في صفر وقد مضى العيدان، ولما رأى العروس بين السماطين ظنه أمير البلد في يوم جلوسه للناس.
ثم وصف ما رآه في العرس على ما تصوره، فقال عن الموائد: ((فلم أنشب أن دخل رجال يحملون هنات مدورات، أما ما خف منها فيحمل حملاً، وأما ما كبر وثقل فيدحرج فوضع ذلك أمامنا، وتحلق القوم عليه حلقاً، ثم أتينا بخرق بيض فألقيت بين أيدينا فظننتها ثياباً، وهممت أن أسأل القوم منها خرقا أقطعها قميصاً، وذلك أني رأيت نسجاً متلاحماً لا يبين له سدى ولا لحمة، فلما بسطه القوم بين أيديهم إذا هو يتمزق سريعاً، وإذا هو فيما زعموا صنف من الخبز لا أعرفه)) . وقال عن العود: ((وكان معنا في البيت شاب لا آبه له، فعلت الأصوات بالثناء عليه والدعاء، فخرج فجاء بخشبة عيناها في صدرها، فيها خيوط أربعة، فاستخرج من خلالها عوداً فوضعه خلف أذنه، ثم عرك آذانها وحركها بخشبة في يده، فنطقت ورب الكعبة! وإذا هي أحسن قينة رأيتها قط، وغنى عليها فأطربني حتى استخفني من مجلسي، فوثبت فجلست بين يديه وقلت: بأبي أنت وأمي ما هذه الدابة فلست أعرفها للأعراب وما أراها خلقت إلا قريباً؟ فقال: هذا البربط، فقلت: بأبي أنت وأمي، فما هذا الخيط الأسفل؟ قال: الزير، قلت: فالأعلى، قال: البم، فقلت: آمنت بالله أولاً، وبك ثانياً، وبالبربط ثالثاً، وبالبم رابعاً)) انتهى.
ومن قبيل بيت الفستق قول عمر بن أحمر الباهلي يصف امرأة بالغرارة:
لم تدر ما نسج اليرندج قبلها ... ودراس أعوص دارس متخدد
يريد أنها غرة لا تعرف نسج اليرندج، ولم تدارس الناس عويص الكلام الذي يخفى أحياناً ويتبين أحياناً. قالوا: ولم يعرف الشاعر أن اليرندج: جلد أسود تعمل منه الخفاف، فظنه مما ينسج. والتمس بعضهم له مخرجاً فقال: أراد بالنسج هنا: المعالجة والعمل. وقال آخر: بل أراد أنها لغرتها وقلة تجاربها ظنت أن اليرندج منسوج.
قلنا: ولا نخال النصوص اللغوية تساعد على الأول. أما الثاني فكما قال أبو هلال في الصناعتين: إن ألفاظ البيت لا تدل عليه.
(ومن قبيله) قول رؤبة:
بل بلد ملء الفجاج قتمهْ ... لا يشتري كتانه وجهرمه
وجهرم: قرية بفارس تنسب إليها الثياب والبسط قال أبو عمرو والأصمعي: فظن رؤبة أنها ثياب، ورد عليهما علي بن حمزة البصري في التنبيهات: بأنه أراد كتانة وجهرمية، فقطع ياء النسب، كما قال العجاج:
يكاد يدري القيقبان المسرجا
والقيقب: خشب تنحت منه السروج، فنسب السرج إليه فقال القيقباني ثم قطع ياء النسب.
وقد استشهد الوزير البطليوسي بهذا البيت في شرح ديوان امرئ القيسي، فذهب فيه مذهب أبي عمرو والأصمعي حيث قال: ((وغلط في الجهرم ظن أنها ثياب وهو بلد بفارس)) (ومن قبيله) قول الراعي يصف امرأة تدهن بالمسك:
تكسو المفارق واللبات ذا أرج ... من قصب معتلف الكافور دراج
فجعل المسك من القصب، وهو المعي، وكأنه لما سمع أنه من دابة ظنها تعتلف الكافور فيتحول في أمعائها إلى مسك ويجتنى منها. وخطأه أبو حنيفة الدينوي في كتاب النبات في قوله يصف إبلاً:
لها فأرة ذفراء كل عشية ... كما فتق الكافور بالمسك فاتقه
فقال: ((ظن أنه يفتق به، وكان الراعي أعرابياً قحاً، والمسك لا يفتق بالكافور)) ولكن علي بن حمزة البصري رد عليه في التنبيهات بقوله: ((أما قوله: والمسك لا يفتق بالكافور فصحيح، ولم يقل الراعي كما فتق المسك بالكافور، وإن كان المسك لا يفتق بالكافور فإن الكافور يفتق بالمسك. وجعل الراعي أعرابياً قحاً، ونسبه إلى الجفاء، وأوهم أنه قد غلط، وخطأه في شيء لم يقله، اللهم إلا أن يكون عند أبي حنيفة أن الكافور لا يفتق بالمسك، ويكون قد غلط هو في العبارة وعكسها، فيكون في هذه الحالة أسوأ حالاً منه في الأولى، ويكون قليل الخبرة بالطيب وعمله واستعماله، ولا رائحة أنم من الكافور إذا فتق بالمسك، يشهد بذلك بنو النعمة والعطارون قاطبة)) انتهى.
(ومن قبيله) قول رؤبة:
هل يعصمني حلف سختيتُ ... أو فضة أو ذهب كبريت