وكل ما ذكرناه من المآخذ لم نأت به من عند أنفسنا بل عولنا فيه على ما في كتب أئمة اللغة والأدب، كاللسان، والمزهر، والخصائص، والأغاني، والعقد، ومحاضرات الأدباء، والقرطين، والتنبيهات، ومجالس أبي مسلم، والوساطة، والموشح، وسفر السعادة، والخزانة، وكتب الأضداد، والضرورات الشعرية، وشروح الدواوين، وغيرها. فإن كان لنا فيه شيء فجمع ما انتثر منه، وضم الشبيه إلى شبيهه، أو ما كان كالتوطئة، أو الشرح لكلامهم. وقد منعنا طول المقال عن إلحاقه بما وقع من هذه الأوهام لفحول المولدين غير ما تقدم ذكره بالمناسبة فأرجأناه لمقال آخر خاص بهم.
الشعراء المولدون
ولنختم كلامنا ببعض ما وقع من الأوهام المعنوية لمن يعتمد بهم من الشعراء المولدين، غير ما تقدم لنا ذكره بالمناسبة مع أوهام العرب.
(أبو نواس) فمما أدرك على أبو نواس قوله في وصف الأسد:
كأنما عينه إذا التفتت ... بارزة الجفن عين مخنوق
فإن عين المخنوق تكون جاحظة، والأسد لا يوصف بجحوظ العين، بل يوصف بغؤورها، كما قال أبو زبيد:
كأن عينيه في وقبين من حجر ... قيضا اقتياضاً بأطراف المناقير
(ومن أوهامه) ما رواه المرزباني في الموشح قال: ((حدثني المظفر ابن يحيى قال: غلط أبو نواس في قوله يصف الكلب:
كأنّما الأظفور من قنابهِ ... موسى صناع ردّ في نصابهِ
لأنه ظن أن مخلب الكلب كمخلب الأسد والسنور الذي يستتر إذا أراد حتى لا يتبين، وعند حاجتهما تخرج المخالب حجنا محددة يفترسان بها. والكلب مبسوط اليد أبداً غير منقبض)) .
(ومما أدرك) على أبي نواس أيضاً قوله يصف الديار:
كأنّها إذا خرست جارم ... بين يدي تفنيده مطرق
قال الجاحظ في الحيوان: ((عابوه بذلك وقالوا: لا يقول أحد: لقد سكت هذا الحجر كأنه إنسان ساكت، وإنما يوصف خرس الإنسان بخرس الدار، ويشبه صممه بصمم الصخر)) انتهى.
قلنا: الذي عندنا من البيت أنه من التشبيه المقلوب والتخيل فيه بديع فلا وجه لما ذكروه.
(ومن التناقض) قول أبي نواس أيضاً يصف الخمر:
كأن بقايا ما عفا من حبابها ... تفاريق شيب في سواد عذار
قال المرزباني في الموشح: ((شبه حباب الكأس بلشيب، وذلك قول جائز لأن الحباب يشبه الشيب في البياض وحده لا في شيء آخر غيره ثم قال:
تردّت به ثمّ انفرى عن أديمها ... تفرّى ليل عن بياض نهار
فالحباب الذي جعله في هذا البيت الثاني كالليل هو الذي في البيت الأول أبيض كالشيب. والخمر التي كانت في البيت الأول كسواد العذار هي التي صارت في البيت الثاني كبياض النهار، وليس في هذا التناقض منصرف إلى جهة من جهات العذر لأن الأبيض والأسود طرفان متضادان وكل واحد منهما في غاية البعد عن الآخر، فليس يجوز أن يكون شيء واحد يصف بأنه أسود وأبيض إلا كما يوصف الأدكن في الألوان بالقياس إلى كل واحد من الطرفين اللذين هو وسط بينهما، فيقال: إنه عند الأبيض أسود، وعند الأسود أبيض، وليس فيما قاله أبو نواس حال توجب انصراف ما قاله إلى هذه الجهة)) انتهى.
قلنا: هذا صحيح على هذه الرواية، ولكنا رأينا على نسختنا من الموشح حاشية نصها: ((الموجود بخط توزون النحوي صاحب أبي عمر الزاهد صاحب أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب: (ترت به ثم انفرت) وعى هذه الرواية لا تناقض)) .
(وفي الموشح) أيضاً ما نصه: (ومن قول أبي نواس على طريق الإيجاب والسلب:
ولىّ عهد ما له قرينُ ... ولا له شبه ولا خدين
أستغفر الله بلى هارون ... يا خير من كان ومن يكون
إلا النبيّ الطاهر الميمون
فصير هارون شبيهاً بولي العهد، ثم قال: إنه خير الناس ولم يستثن بهارون، فكأنه إما خير منه وليس خيراً منه لأنه شبيهه، أو شبيهه وليس بشبيهه لأنه خير منه، وهذا جمع بين النفي والإثبات)) .
(أبو تمام) (ومما وهم) فيه أبو تمام قوله:
ألذّ من الماء الزلال على الظما ... وأطرف من مرّ الشمال ببغداد
قال القاضي الجرجاني في الوساطة: ((جعل الشمال طرفة ببغداد، وهي أكثر الرياح بها هبوباً، وقد رواه بعض الرواة أظرف، ولا أعرف معنى الظرف في الريح)) .
(وقوله) :
ورحب صدر لو أنّ الأرض واسعة ... كوسعه لم يضق عن أهله بلد