وأخرج عبد الرزاق والبيهقي عن أبي قلابة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر برجل يقرأ كتابًا، فاستمعه ساعة، فاستحسنه، فقال للرجل: اكتب لي من هذا الكتاب، فقال: نعم، فاشترى أديمًا فهيأه ثم جاء به إليه فنسخ له في ظهره وبطنه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يقرأه عليه، وجعل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلون، فضرب رجل من الأنصار بيده الكتاب، قال: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب أما ترى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ اليوم وأنت تقرأ عليه هذا الكتاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: «إنما بعثت فاتحًا وخاتمًا، وأعطيت جوامع الكلم وفواتحه واختصر لي الحديث اختصارًا، فلا يهلكنكم المتهوكون» (?).
وأخرج ابن الضريس عن الحسن أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا رسول الله إن أهل الكتاب يحدثونا بأحاديث قد أخذت بقلوبنا، وقد هممنا أن نكتبها فقال: «يا ابن الخطاب أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى؟ أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولكني أعطيت جوامع الكلم، واختُصر لي الحديث اختصارًا» (?).
من هذه النصوص وغيرها يتبين لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعتمد شيئًا في تربية الصحابة غير القرآن، وسنته المطهرة، باعتبارها شارحة له.
ومن هنا توثق ارتباط الناس بالقرآن في العهد النبوي، ارتباطًا عمق صلة القلوب بربها، إلى درجة أن الصحابة، رضوان الله عليهم، كانوا يتتبعون الوحي، تتبع الملهوف، الحريص على الترقي في مدارج المعرفة بالله والسلوك إليه سبحانه (?).
تأمل معي أخي القارئ هذا الخبر الذي يبين كيف كان حال الصحابة مع القرآن، وكيف كانوا يستقبلون توجيهاته وإشاراته:
نزل رجل من العرب على عامر بن ربيعة، فأكرم عامر مثواه، وكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء الرجل فقال: إني استقطعت رسول الله صلى الله عليه وسلم واديًا ما في العرب أفضل منه، ولقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك. فقال عامر: لا حاجة لي في قطيعتك، نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1].
بل انظر إلى مدى تقدير اليهود للقرآن, بل لآية واحدة فيه وهم الذين ينكرونه ويكذبونه ويكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا حسدًا من عند أنفسهم: «نزلت عليكم آية لو نزلت علينا معشر يهود لجعلنا يوم نزولها عيدًا يقصدون قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة:3] , لما فيها من فضل وتكريم، فهل شعرنا نحن بهذا التكريم من الله، وقدرناه حق قدره، وقمنا بحقه؟
الجيل الفريد:
كان من نتاج ارتباط الصحابة الوثيق بالقرآن، والانصياع التام له، والسماح لمعجزته أن تعمل داخلهم، أن تكونت أمة جديدة وجيلاً فريدًا لم تر البشرية مثله حتى الآن.
يقول محمد الغزالي - رحمه الله -: الأمة التي نزل عليها القرآن فأعاد صياغتها هي المعجزة التي تشهد للنبي عليه السلام بأنه أحسن بناء الأجيال، وأحسن تربية الأمم، وأحسن صياغة جيل قدم الحضارة القرآنية للخلق .. فنحن نرى أن العرب عندما قرأوا القرآن، تحولوا إلى أمة تعرف الشورى وتكره الاستبداد، إلى أمة يسودها العدل الاجتماعي ولا يُعرف فيها نظام الطبقات، إلى أمة تكره التفرقة العنصرية، وتكره أخلاق الكبرياء والترفع على الشعوب.