القرآن لا يبلى من كثرة الرد، ففيه الجديد دائمًا لقرائه، ولو نهل البشر جميعًا من نبعه لما انقطع أبدًا عن التدفق، ولما شعر أحدهم بالملل أو التكرار أو عدم وجود جديد، بل العجب أننا سنفاجأ يوم القيامة بأننا ما أخذنا إلا رشفات وقطرات يسيره من نهر القرآن العظيم الفياض بالخير، وصدق من قال بأن القرآن لا يزال بكرًا.
وفي هذا المعنى يقول د. محمد عبد الله دراز - رحمه الله -:
تقرأ القطعة من القرآن فتجد في ألفاظها من الشفوف، والملاسة، والإحكام، والخلو من كل غريب عن الغرض، ما يتسابق به مغزاها إلى نفسك دون كدّ خاطر ولا استعادة حديث, كأنك لا تسمع كلامًا ولغات بل ترى صورًا وحقائق ماثلة.
وهكذا يخيل لك أنك قد أحطت به خُبرا ووقفت على معناه محدودًا ...
هذا ولو رجعت إليه كرة أخرى لرأيتك منه بإزاء معنى جديد، غير الذي سبق إلى فهمك أول مرة. وكذلك حتى ترى للجملة الواحدة أو الكلمة الواحدة وجوهًا عدة، كلها صحيح أو محتمل للصحة، كأنما هي فصّ من الماس يعطيك كل ضلع منه شعاعًا فإذا نظرت إلى أضلاعه جملة بهرتك بألوان الطيف كلها، فلا تدري ماذا تأخذ عينك وماذا تدع.
ولعلك لو وكلت النظر فيها إلى غيرك لرأى منها أكثر مما رأيت. وهكذا تجد كتابًا مفتوحًا مع الزمان يأخذ كل منه ما يُيسَّر له، بل ترى محيطًا مترامي الأطراف لا تَحدّه عقول الأفراد ولا الأجيال.
ثم يضرب الشيخ دراز مثلاً فيقول:
اقرأ قوله تعالى: {وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة:212] , وانظر هل ترى كلامًا أبيين من هذا في عقول الناس. ثم انظر كم في هذه الكلمة من مرونة، فإنك لو قلت في معناها:
1 - إنه سبحانه يرزق من يشاء بغير محاسب يحاسبه ولا سائل يسأله لماذا يبسط الرزق لهؤلاء ويقدره على هؤلاء، أصبت.
2 - ولو قلت: إنه يرزق بغير تقتير ولا محاسبة لنفسه عند الإنفاق خوف النفاذ، أصبت.
3 - ولو قلت: إنه يرزق من يشاء من حيث لا ينتظر ولا يحتسب، أصبت.
4 - ولو قلت: أنه يرزقه بغير معاتبة ومناقشة له على عمله، أصبت.
5 - ولو قلت: يرزقه رزقًا كثيرًا لا يدخل تحت حصر وحساب، أصبت. (?)
تقرأ فتؤجر:
وفوق هذا كله فالقرآن عبادة يُتعبد من خلالها ويُتقرب إلى الله عز وجل بها، مما يدفع بالمسلم إليه ويحببه دومًا في التعامل معه كباب للأجر والثواب، وقربة إلى الله، وهذا لا يتوافر في أي كتاب آخر.
تأمل هذا القول لرسول الله صلى الله عليه وسلم وما يمكن أن يثيره من رغبة لقراءة القرآن:
«أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله، أن يجد ثلاثَ خِلفاتٍ عظامٍ سمانٍ؟ فثلاث آيات يقرأ بهن أحدكم في صلاته، خير له من ثلاث خلفاتٍ عظامٍ سمان» (?).
* * *