من المزايا العظيمة للقرآن أنه ميسر للذكر {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر: 17].
ففي أي وقت بالليل أو النهار، وفي أي مكان طاهر يستطيع المرءْ أن يلتقي مع القرآن.
كان من الممكن أن تكون قراءة القرآن مقصورة على أزمنة محددة أو أماكن معينة كالمساجد مثلاً، لكن الله عز وجل جعل تناوله بهذا التيسير لتتاح الفرصة للجميع أن يلتقوا به في الوقت الذي يروق لهم، وهذا - بلا شك - يعطي للقرآن مزية عظيمة في استيعابه لجميع الأفراد باختلاف ظروفهم وأحوالهم.
خطاب للعامة وخطاب للخاصة:
ومع تيسر القرآن للقراءة في أي وقت وأي مكان فإنه كذلك ميسر للفهم، فخطابه موجه للعامة والخاصة.
يقول د. دراز: وهاتان غايتان متباعدتان عند الناس، فلو أنك خاطبت الأذكياء بالواضح المكشوف الذي تخاطب به (العامة) لنزلت بهم إلى مستوى لا يرضونه لأنفسهم في الخطاب.
ولو أنك خاطبت العامة باللمحة والإشارة التي تخاطب بها الأذكياء لجئتهم من ذلك بما لا تطيقه عقولهم، فلا غنى لك - إن أردت أن تُعطي كلتا الطائفتين حظها كاملاً من بيانك - أن تخاطب كل واحدة منها بغير ما تخاطب به الأخرى، كما تخاطب الأطفال بغير ما تخاطب به الرجال.
فأما أنَّ جملة واحدة تُلقى إلى العلماء والجهلاء، وإلى الأذكياء والأغبياء، وإلى السوقة والملوك، فيراها كل منهم مُقَدّرة على مقاس عقله، وعلى وفق حاجته, فذلك ما لا تجده على أتمه إلا في القرآن الكريم.
فهو قرآن واحد يراه البلغاء أوفى كلام بلطائف التعبير، ويراه العامة أحسن كلام وأقربه إلى عقولهم، لا يلتوي على أفهامهم، ولا يحتاجون فيه إلى ترجمان وراء وضع اللغة، فهو متعة العامة والخاصة على السواء. ميسر لكل من أراد {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر: 17].
القصد في اللفظ والوفاء بحق المعنى:
من وسائل تيسير القرآن للقراءة أنه كتاب موجز مع أن ما يحتويه من معان عظيمة يحتاج عرضها إلى الكثير من المجلدات الضخمة.
تخيل معي - أخي القارئ - أن القرآن يملأ عدة مجلدات ... هل سيقبل عليه الناس؟ هل سيتسنى لهم قراءته من أوله إلى آخره أم سيهابون ذلك ويتكاسلون عن إتمامه؟!
هذا الإيجاز المعجز يجمع بين القصد في اللفظ والوفاء بالمعنى، وهذان ضدان لا يمكن أن يجتمعا في أي كلام غير القرآن كما يقول د. دراز: فالذي يعمد إلى ادخار لفظه وعدم الإنفاق منه إلا على حد الضرورة لا ينفك من أن يحيف على المعنى قليلاً أو كثيرًا ... فالحذر يأخذه من الإكثار والإسراف ... يبذل جهده في ضم أطرافه وحذف ما استطاع من أدوات التمهيد والتشويق، ووسائل التقرير والتثبيت، وما إلى ذلك مما تمس إليه حاجة النفس في البيان، حتى يخرجه ثوبًا متقلصًا يقصر عن غايته، أو هيكلاً من العظم لا يكسوه لحم ولا عصب ... ورب حرف ينقص من الكلام يذهب بمائه ورونقة، ويكسف شمس فصاحته.
والذي يعمد إلى الوفاء بحق المعنى وتحليله إلى عناصره، وإبراز كل دقائقه لا يجد له بُدًّا من أن يمد في نفسه مدًّا، لأنه لا يجد في القليل من اللفظ ما يشفي صدره، ويؤدي عن نفسه رسالتها كاملة، فإذا أعطى نفسه حظه من ذلك لا يلبث أن يباعد ما بين أطراف كلامه، ويبطئ بك في الوصول إلى غايته فتحسُّ بقوة نشاطك وباعثة إقبالك آخذتين في التضاؤل والإضمحلال (?).
فإن سرك أن ترى كيف تجتمع هاتان الغايتان على تمامهما بغير فترة ولا انقطاع، فانظر حيث شئت من القرآن الكريم، تجد بيانًا قد قدِّر على حاجة النفس أحسن تقدير، فلا تحس فيه بتخمة الإسراف ولا بمخمصة التقتير.