بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

تقديم

إن في تاريخ الأندلس - ذلك الفردوس المفقود - لَدروسًا وعِبَرًا لا نجدها في تاريخ غيرها من البلاد. ولا شك أن ازدهار المسلمين في الأندلس ثم انهيار دولتهم وسقوط حضارتهم يشكل جزءًا هامًا من تاريخ الإسلام السياسي والحضاري. كانت الأندلس نموذجًا أمثل لرقي المسلمين الثقافي والحضاري والعلمي والفكري في أوج ازدهارها وعصرها الذهبي. ولم يستطع التاريخ أن يقدم نظائر لما أنتجته الأندلس من علماء نوابغ ومفكرين عباقرة. فأنى للزمان أن يجود بمثل أبي عبد الله القرطبي في علم التفسير، وأن يأتي بنظير لبقي بن مخلد في علم الحديث، وأن يقدم قرينًا لأبي إسحق الشاطبي في علوه في التفكير الفقهي، وأن يأتي بعديل لابن رشد وابن باجة في الفكر الفلسفي، ومن ذا الذي يسبق أبا محمدِ بن حزم في شرحه للفقه الظاهري شرحًا وافيًا مبسطًا. وهل في العالم الإسلامي من يفوق ابن العربي في تفكيره البديع وسعة اطلاعه على الأدب الصوفي بجميع أبعاده ونواحيه.

وليس بِخافِ على مَن له إلمام بتاريخ الأندلس أن الانهيار الذي تلى هذا الازدهار لا نظير له ولا مثيل في تاريخ سقوط الأمم وانهيار الحضارات. إن تاريخ المسلمين يقدّم أمثلة كثيرة لسقوط الحكومات والانهزامات العسكرية. فعانت الدولة المغولية في الهند مشاكل على أيدي الهندوس والإنجليز أدّت في نهاية المطاف إلى سقوط الدولة الإسلامية وهزيمتها العسكرية. وسقطت حكومات إسلامية في بخارى وسمرقند ومدن أخرى من مدن آسيا الوسطى - منطقة ما وراء النهر - وانهارت دول الإسلام المتعددة في بلاد إفريقيا، وانقضت حضارات إسلامية في منطقة الشرق الأقصى. ولكن هناك فرقًا كبيرًا وبونًا شاسعًا بين هذا السقوط وبين سقوط المسلمين في الأندلس، وبين هذا الانهيار وبين انهيار دولة الإسلام في

طور بواسطة نورين ميديا © 2015