والشعر القديم والمحدث مملوء من ذلك، قال البحترىّ:
ولو شئت يوم الجزع بلّ غليله … محبّ بوصل منك لو ينفع الوصل (?)
وإنما أراد: لو ينفع الوصل لنفعنى وبلغنى منيتى؛ وما أشبه ذلك؛ ومثله قوله:
وتعجبت من لوعتى فتبسمت … عن واضحات لو لثمن عذاب
وأنت إذا تأملت ضروب المجازات التى يتصرف فيها أهل اللسان فى منظومهم ومنثورهم وجدتها كلّها مبنية على الحذف والاختصار؛ ولأن قوله تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ؛ [الفجر: 22]؛ وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ؛ [يوسف: 82] مما الحذف فيه ظاهر.
وإنما كان الكلام أبلغ وأفصح؛ لأن كلامه قلّل بحذف بعضه ومعانيه بحالها؛ وكذلك قولهم فى المدح: فلان البدر، والبحر، واللّيث؛ وفى الذم: هو الحمار، والحائط؛ إنما هو مبنىّ على الحذف، لأن المراد هو مشبه ومماثل لما ذكر؛ فأسقط من الكلام ما يقتضي التشبيه؛ لدلالة القول عليه.
فإن قيل: فإذا كانت الفصاحة هى الاختصار، فكيف قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11]؛ فزاد الكاف؛ ولا معنى لها إلا الفصاحة؛ فقد صارت الفصاحة بالزيادة كما كانت بالنقصان!
قلنا: دخول الكاف هاهنا ليست على سبيل الزيادة التى لو طرحت لما تغيّر المعنى؛ بل تفيد بدخولها ما لا يستفاد مع خروجها؛ لأنه إذا قال: «ليس مثله شيء» جاز أن يراد من بعض الوجوه، وعلى بعض الأحوال؛ فإذا دخلت الكاف فهم نفى المثل على كل وجه؛ ألا ترى أنه لا يحسن أن يقال: ليس كمثله أحد فى كذا بل على الإطلاق والعموم.
وبمثل هذا الجواب نجيب من يسأل عن قولهم: ما إن فى الدار زيد؛ لأنه لو قال:
ما فى الدار زيد لجاز أن يكون نفيه لكونه فيها على وجه دون وجه؛ فإذا قال: «ما إن» فهم نفى كونه على كل حال؛ وهذا يدلّ على أنها مفيدة غير زائدة.