قيل: فألّا اقتصر على هذا، وحمل الكلام على أنه تعالى أنزل شيئا من القرآن فى شهر رمضان ولم يحتج إلى أن يجعل لفظة فِيهِ بمعنى فى فرضه وإيجاب صومه.
والجواب الصحيح، أن قوله تعالى: الْقُرْآنُ فى هذا الموضع لا يفيد العموم والاستغراق، وإنما يفيد الجنس من غير معنى الاستغراق، فكأنه قال: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ هذا الجنس من الكلام؛ فأىّ شيء نزل منه فى الشهر فقد طابق الظاهر.
وليس لأحد أن يقول: إن الألف واللام هاهنا لا يكونان إلا للعموم والاستغراق؛ لأنا لو سلمنا أن الألف واللام صيغة العموم والصورة المقتضية لاستغراق الجنس لم يجب أن يكون هاهنا بهذه الصفة؛ لأن هذه اللفظة قد تستعمل فى مواضع كثيرة من الكلام ولا يراد بها أكثر من الإشارة إلى الجنس والطبقة من غير استغراق وعموم؛ حتى يكون حمل كلام المتكلم بها على خصوص أو عموم؛ كالناقض لغرضه والمنافى لمراده؛ ألا ترى أن القائل إذا قال:
فلان يأكل اللحم، ويشرب الخمر، وضرب الأمير اليوم اللصوص، وخاطب الجند لم يفهم من كلامه إلا محض الجنس والطبقة من غير معنى خصوص ولا عموم؛ حتى لو قيل له: فلان يأكل جميع اللحم، ويشرب جميع الخمر أو بعضها لكان جوابه: إننى لم أرد عموما ولا خصوصا؛ إنما أريد أنّه يأكل هذا الجنس من الطعام، ويشرب هذا الجنس من الشراب؛ فمن فهم من كلامى العموم أو الخصوص فهو بعيد من فهم مرادى.
وأرى كثيرا من الناس يغلطون فى هذا الموضع، فيظنون أنّ الإشارة إلى الجنس من غير إرادة العموم والاستغراق ليست مفهومة؛ حتى يحملوا قول من قال: أردت الجنس فى كل موضع على العموم؛ وهذا بعيد ممّن يظنه؛ لأنه كما أنّ العموم والخصوص مفهومان/ فى بعض المواضع بهذه الألفاظ فكذلك الإشارة إلى الجنس والطبقة من غير إرادة عموم ولا خصوص مفهومة مميزة؛ وقد ذكرنا أمثلة ذلك.
فأما قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فأكثر المفسرين حملوه على أنّ المراد بمن شهد منكم الشهر من كان مقيما فى بلد غير مسافر. وأبو عليّ حمله على أنّ المراد