فإن قيل: أليس قد ذمّهم فى الكلام بأن جعل منهم القردة والخنازير؛ ولا صنع لهم فى ذلك! وكذلك يجوز أن يذمّهم ويجعلهم عابدين للطاغوت؛ وإن كان من فعله!
قيل (?): إنما جعلهم قردة وخنازير عقوبة لهم على أفعالهم وباستحقاقهم، فجرى ذلك مجرى أفعالهم، كما ذمّهم بأن لعنهم وغضب عليهم؛ من حيث استحقّوا ذلك منه بأفعالهم وعبادتهم للطاغوت؛ فإن كان هو خلقها فلا وجه لذمهم بها؛ لأن ذلك مما لا يستحقونه بفعل متقدّم كاللّعن والمسخ.
ثم نعود إلى تأويل الآية فنقول: لا ظاهر للآية يقتضي ما ظنّوه، وأكثر ما تضمنته الإخبار بأنه خلق وجعل من يعبد
الطاغوت كما جعل منهم القردة والخنازير؛ ولا شبهة فى أنه تعالى هو خلق الكافر، وأنه لا خالق له سواه؛ غير أن ذلك لا يوجب أنه خلق كفره وجعله كافرا.
وليس لهم أن يقولوا: كما نستفيد من قوله: جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ أنه جعل ما به كانوا كذلك؛ هكذا نستفيد من قوله: جعل منهم من عبد الطاغوت أنه خلق ما به كان عابدا للطاغوت؛ وذلك إنما استفدنا ما ذكروه من الأول؛ لأنّ الدليل قد دلّ على أنّ ما به يكون القرد قردا والخنزير خنزيرا؛ لا يكون إلّا من فعله.
وليس ما به يكون الكافر كافرا مقصورا على فعله تعالى؛ بل قد دلّ/ الدليل على أنه يتعالى عن فعل ذلك وخلقه، فافترق الأمران.
وفى الآية وجه آخر؛ وهو ألّا يكون قوله تعالى: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ معطوفا على القردة والخنازير؛ بل معطوفا على مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ؛ وتقدير الكلام: من لعنه الله، ومن غضب عليه، ومن عبد الطاغوت، ومن جعل الله منهم القردة والخنازير؛ وهذا هو الواجب؛ لأن عَبَدَ فعل، والفعل لا يعطف على الاسم، فلو عطفناه على القردة والخنازير لكنا قد عطفنا فعلا على اسم، فالأولى عطفه على ما تقدم من الأفعال.