ثم ألقى فى النار ما أبطلته؛ لأنها وإن أحرقته فإنها لا تدرسه؛ إذ كان الله قد ضمّنه قلوب الأخيار من عباده؛ والدليل على هذا قول الله تعالى للنبى صلى الله عليه وآله فيما روى عنه:
إنى منزّل عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرأه نائما ويقظان؛ فلم يرد تعالى أن القرآن لو كتب فى شيء ثم غسل بالماء لم ينغسل؛ وإنما أراد أنّ الماء لا يبطله ولا يدرسه إذا كانت القلوب تعيه وتحفظه.
قال: ومثل هذا كثير فى كتاب الله تعالى وفى لغة العرب؛ قال الله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا/ وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً؛ [النساء: 42]، فهم قد كتموا الله تعالى لمّا قالوا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23]، وإنما أراد تعالى؛ ولا يكتمون الله حديثا فى حقيقة الأمر؛ لأنهم وإن كتموه فى الظاهر فالذى كتموه غير مستتر عنه.
قال سيدنا الشريف المرتضى أدام الله علوّه: والوجه الصحيح فى تأويل الخبر غير ما توهّمه ابن قتيبة وابن
الأنبارىّ جميعا، وهو أن هذا من كلام النبىّ صلى الله عليه وآله على طريق المثل والمبالغة فى تعظيم شأن القرآن والإخبار عن جلالة قدره وعظم خطره، والمعنى أنه لو كتب فى إهاب، وألقى فى النار وكانت النار مما لا تحرق شيئا لعلوّ شأنه وجلالة قدره لم تحرقه النار.
ولهذا نظائر فى القرآن وكلام العرب وأمثالهم كثيرة ظاهرة على من له أدنى أنس بمذاهبهم، وتصرّف كلامهم.
فمن ذلك قوله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ؛ [الحشر: 21].
ومعنى الكلام: إنّنا لو أنزلنا القرآن على جبل، وكان الجبل مما يتصدّع إشفاقا من شيء؛ أو خشية لأمر لتصدّع مع صلابته وقوّته؛ فكيف بكم يا معاشر المكلّفين، مع ضعفكم وقلّتكم! وأنتم أولى بالخشية والإشفاق؛ وقد صرح الله تعالى بأنّ الكلام خرج مخرج